في اللقاء الأخير لرئيس هيئة الطاقة النووية في جريدة الرأي، أعاد قراءة الموضوع بشكل أكثر وضوحا من الماضي. وجاءت القراءة لتؤكد الكثير من التخوفات والمحاذير إزاء المشروع، والذي يحلو للبعض، لكي يمنع النقد والرأي الآخر، أن يسميه “مشروع دولة” أو “مشروع وطن”. وهذا تنويه لا مبرر له ، ولا خلاف عليه. فكل مشروع غايته المصلحة الوطنية ،هو مشروع وطني ومشروع دولة، حتى لو كان مركزا ثقافيا في قرية صغيرة. ولأنه كذلك، فإن الحرص يجب أن يكون اكبر، كما أن مشروع الدولة لا يبرر الأخطاء، وخاصة الكبرى منها.و كما أكدنا أكثر من مرة أن الوطن لا يحتمل الأخطاء و لا سوء التقدير في محطة نووية ضخمة . فالمسألة الأولى أن حديث الهيئة عن احتياطيات اليورانيوم أصبح أقل إفراطا ومبالغة في الأرقام ، و إن كان لا يزال بعيدا عن الحقيقة بكاملها سواء من حيث الكميات أو التراكيز. فبعد أن كان الحديث على لسان الهيئة يشير إلى مئات الآلاف من أطنان اليورانيوم، وكان الخبراء من خارج الهيئة في حينه يقولون غير ذلك، انخفضت الأرقام لتصل إلى (38) ألف طن. وبعد أن كان الحديث أن الهيئة ستنتج الكعكة الصفراء بعد انسحاب شركة أريفا، و أن الأردن سيصدر 2000 طن منها في عام 2012 ، وأن العائدات ستتجاوز 1.5 مليار دولار سنويا قال رئيس الهيئة :”إننا أنتجنا حتى عام 2015 بضع غرامات من الكعكة الصفراء وعلى مستوى المختبر فقط” وهذا عودة عن المعلومات الموهمة إلى معلومات أكثر واقعية. لكن الخطأ الكبير الذي لا زال قائما يتمثل في أولا الربط بين المشروع النووي و اليورانيوم. فهما موضوعان مختلفان تماما.و ما ينتج من مشروع تعدين اليورانيوم ليس هو عمليا و اقتصاديا الوقود النووي. فالوقود فيه عملية تخصيب معقدة و محصورة في عدد من البلدان. وعلينا أن نشتري اليورانيوم المخصب جاهزا. و يتمثل ثانيا في افتراض أننا سنصبح مستقلين في الطاقة. فحين تتم عملية التخصيب خارج الأردن، و تكون تكنولوجيا المفاعلات وصناعتها،و هندستها و قطع الغيار فيها و كل مفرداتها الصناعية حتى التخلص من البقايا النووية، هي غير أردنية. بل و أن استقرار الشبكة الكهربائية سيعتمد على الربط مع الخارج غير المحدد و غير المستقر، فأين هو استقلال الطاقة ؟مع العلم أن الطاقة النووية لن تغطي أكثر من 16% من احتياجاتنا من الطاقة ؟؟ و الخطأ الثالث الحديث عن تصدير اليورانيوم إلى البلاد العربية . آي اليورانيوم سوف يتم تصديره ؟ هل هو الخام الذي لا يزيد سعر الطن عن (70) ألف دولار؟ و نحن لا نعرف حتى الآن كلفة التعدين و لا من أين ستتوفر المياه لهذه الغاية ؟ أم اليورانيوم المخصب الذي لا نخصبه نحن؟ إن بناء التوقعات والآمال على هذا الموضوع قبل اتضاح الصورة و قبل استكمال متطلبات الإنتاج الأساسية خطأ ينبغي الانفكاك منه والإقلاع عنه دون رجعة. كما وأنه ينبغي لهيئة الطاقة النووية أن لا تدخل في موضوع جيولوجي تعديني مختلف جدا عن الطاقة النووية ، و لا بد أن تكون هناك مؤسسة متخصصة مستقلة تماما للتعامل مع اليورانيوم. المسألة الثانية هي إنشغال الهيئة “بدراسة السوق الإقليمي لبيع الكهرباء التي ستنتجها المحطة ،لأنها محطة كبيرة” . وهذا أمر كان الخبراء ولا يزالون يشيرون إليه . ذلك أن المحطة المقترحة اكبر من التواؤم مع الشبكة الأردنية، وكان غير مصرح بذلك في السابق. إن الاستمرار على ذات الحجم أي 1000 ميغا واط للمفاعل خطأ هندسي فادح و خطأ إقتصادي و استراتيجي كبير. أي سوق الكهرباء يتحدث عنه رئيس الهيئة ؟ سوريا أم العراق؟ أم مصر أم إسرائيل؟ أم السعودية؟ ليس هناك في تاريخ الدول التي لديها محطات نووية أن بنت دولة محطة اكبر من قدرتها على الاستيعاب واكبر من قدرة شبكتها على التعامل مع الحجوم الضخمة من المفاعلات ثم راحت تبحث عن سوق للكهرباء حولها . الأساس أن تكون المحطة في حدود إمكانات الأحمال وقدرة الشبكة بكامل الاستقلال والاستقرار، وبعد ذلك يمكن الربط لغايات تحسين الكفاءة وزيادة المرونة وتعزيز الاستقرار و تحسين الإقتصاديات. أما الاعتماد على شبكات الدول المجاورة وهي محل خلل أو تدمير يومي ومحل انقطاع متواصل فهذا ما لم تشهده دولة قبل الآن. إن احتمال الربط مع السعودية ضعيف و معقد جدا و مكلف للغاية، الأمر الذي سيوصل إلى الربط الكهربائي مع إسرائيل فقط. وهذا غير مقبول سياسيا ووطنيا ويضع الأردن تحت طائلة الابتزاز الإسرائيلي البشع. و مرة ثانية و عاشرة،إن سياسة نتنياهو هي السلام الاقتصادي ويتحقق من خلال المشاريع الكبيرة على حساب المسائل السياسية. فهو يريد أن يربط الأردن بإسرائيل من خلال الغاز والمياه والكهرباء و كلها ترتيبات غامضة أو اتفاقيات سرية. الأساس أيها السادة أن يكون حجم المفاعل في حدود 400 ميغا واط حتى يتناسب مع الشبكة الأردنية بكامل الاستقلال والاستقرار. وهذا أمر ينبغي تصويبه فورا. أما إذا كان الروس لا ينتجون المفاعلات المتوسطة والصغيرة في هذه الفترة، فلا يجوز أن يخضع القرار للظروف الروسية على حساب المصلحة الوطنية. و سيشهد العالم خلال العقد القادم إهتماما بارزا و إنتاجا واسعا بهذا النوع من المفاعلات . المسألة الثالثة وهي “المياه والتي سيتم نقلها من الخربة السمراء لتبريد المفاعل وباحتياجات تتعدى 30 مليون م3 سنويا”. أما الاحتياجات في حالة الطوارئ فهي مسألة بالغة الخطورة لأنه لا يوجد مياه أخرى. وكميات المياه المطلوبة في حالة الطوارئ قد تصل مئات الملايين من الأمتار المكعبة. وليس هناك مصدر مائي أبدا لمواجهة هذه الحالة. وهذه قضية جوهرية مطلقة، ينبغي التعامل معها قبل الدخول بأية تفاصيل أخرى. ولا يتضح أبدا من سيكون مسئولا عن الماء الشركة آم الحكومة الأردنية في حالة الكوارث… لا احد يدري؟؟ إن مشروعا بهذه الضخامة والخطورة والثقل الاقتصادي والاستراتيجي والفني لا ينبغي أن تتعدد فيه نقاط الضعف الجسيمة. بعض من المعارضين هم ضد الطاقة النووية من حيث المبدأ،و لهم الحق في ذلك. ولكن جميع المعارضين يرفضون تسويق مشاريع فيها أخطاء هندسية و إقتصادية و لوجستية جسيمة بل و كارثية، ويرفضون عدم الإستعداد لتصحيحها في الوقت المناسب. و إذا تم تنفيذ المشروع بهذه الأخطاء يصبح التصحيح غير ممكن.. و نؤكد مرة ثانية أن اكتساب الخبرة و المعرفة في التكنولوجيا و الصناعة النووية أمر مطلوب و محل تشجيع، و لهذا فإن المفاعل البحثي الذي أصبح على وشك الإنتهاء أكثر من كاف لسنوات طويلة. و لكن الاستثمار في المحطات النووية سابق لأوانه جدا، وفي غير ظروفه، و بناء المشروع بكل هذه الأخطاء ليس في مقدور البلاد أن تتحمل عواقبها. في ظل ظروف انخفاض أسعار النفط، تقتضي المصلحة الوطنية أن يتم التركيز على الصخر الزيتي، والطاقة المتجددة الشمسية و الرياح، وإدخال الغاز والفحم. بذلك يتحقق استقلال الطاقة من خلال تنوع مصادرها ، و استثمار مصادر محلية ذات تكنولوجيا يمكن التمكن منها بسرعة.. وفي هذه الأثناء دعونا نتعلم ونكتسب الخبرة في التكنولوجيا النووية على مهل وعلى شتى المستويات، ويكون العالم خلال 25 سنة القادمة قد وصل إلى التكنولوجيا النووية الاندماجية و هي الأقل خطرا والأقل كلفة والأكثر ملائمة لبلدنا فذلك هو المستقبل الصحيح للطاقة و الاستقلال الحقيقي فيها.