في لقائه مع وجهاء الزرقاء، أكد الملك عبد الله الثاني على مسألتين رئيسيتين: الأولى : الفقر والبطالة والثانية : أعباء اللجوء السوري إلى الأردن . وإذا كان المؤتمر الدولي الذي سينعقد في لندن في الشهر القادم سوف ينظر في إمكانات مساعدة الأردن على مواجهة تكاليف اللجوء السوري و متطلباته، فإن السؤال يبقى قائماً (ومنذ عشرين سنة) ماذا عن الفقر والبطالة ؟ متى يكون هناك موقف جاد و عملي إزاءهما؟ و هل نجحت دول أخرى في التغلب عليها؟ لقد آن لنا أن نتفهم أن المجتمع الدولي لا تعنيه مثل هذه القضايا، إذ يعتبرها مسائل داخلية بحتة.
و هي كذلك بالفعل. فليس هناك من مؤتمر دولي، أو مساعدات خارجية ،أو قروض متلاحقة، يمكن أن تحل مشكلة الفقر والبطالة، وإنما الحل يكمن في داخل الدولة نفسها، في سياساتها و برامجها و أولوياتها .
من جهة ثالثة أشار الملك إلى المشقة التي يعانيها المواطن بسبب التكاليف المرتفعة للمعيشة .
تدل تجارب جميع الدول التي عانت من هذه الظاهرة المركبة “الفقر و البطالة و الغلاء” أن المدخل الوحيد يتمثل في تنشيط الإقتصاد الوطني و توسيع هيكله و تنويع بنيته على أسس و قواعد مختلفة تماما عن الواقع الحالي. فاقتصادنا الوطني” لا هوية له ولا إتجاه”، و يطغى عليه الاعتماد على الاستيراد و إعادة التصدير، إضافة إلى الخدمات المتواضعة في قيمتها المضافة، و الصناعة التي تواجهها شتى أنواع العقبات، و الزراعة التي تعاني من التهميش و التهشيم و قلة المياه و انخفض الإنتاجية بسبب تواضع التكنولوجيا.
و مثل هذه البنية للإقتصاد لا تستطيع أن تولد فرص عمل كافية نحتاج منها سنويا ما يقرب من 80 ألف فرصة.
ولا تستطيع أن تضيق مسحات الفقر التي تتزايد مع استفحال البطالة و الغلاء.
وعليه “ فليس هناك من خروج من هذه الحالة إلا من خلال الصناعة و تصنيع القطاعات الإقتصادية المختلفة من صناعة و زراعة و نقل و خدمات و سياحة ، أو ما يعرف بتصنيع الإقتصاد”.
كما أنه لا وسيلة لمواجهة الارتفاعات المتواصلة في تكاليف المعيشة بما فيها مفردات الطاقة والمياه إلا بزيادة دخل المواطن . أما البكاء على الطاقة بأنها هي السبب والإشارة إليها بعد أن انخفض سعر النفط إلى أقل من 35 دولارا للبرميل بدلاُ من مئة، وانخفضت الفاتورة النفطية إلى 35% من قيمتها فلن يجدي شيئاً . الحل الوحيد هو زيادة دخل المواطن من خلال رفع معدلات النمو الإقتصادي لتكون ضعفين أو ثلاثة أضعاف النمو السكاني، أي لتصل 6% أو 7% بدلاً من نسبة النمو المتواضعة 2.6% التي استمر عليها اقتصادنا لعدة سنوات . و مرة ثانية لا طريق لزيادة معدلات النمو الاقتصادي وتوليد فرص العمل ألا من خلال تصنيع القطاعات الإقتصادية المختلفة.
و حتى اليوم لم تستقر القناعة لدى “الإدارات “ أن قطاع الصناعة و التصنيع التدريجي للمستوردات تمثل المدخل الرئيسي للتغيير. “فالإدارة” تنظر إلى الصناعة أنها مجرد قطاع.. قائم بذاته، و يعمل لذاته، و لا علاقة للقطاعات الأخرى به. و لذلك فتراجع الصناعة لا يقلق أحدا و إغلاق آلاف المصانع “عادي”.و كل توقف للإنتاج الوطني يتم تعويضه بمواد مستوردة.”عادي” و لا تتنبه الإدارة أن كل استيراد ب 50 ألف دينار يناظر فرصة عمل تخسرها البلاد .
لقد أثار ممثلو القطاع الصناعي في الندوة التي عقدت في جريدة الرأي عددا من المسائل التي تسترعي الانتباه و تعيق الصناعة والتصنيع و تطرح ربما للمرة السابعة عشرة بعد الألف السؤال الكبير “لماذا لا يوجد توجه رسمي جاد لخلق تنمية صناعية حقيقية في البلاد؟ لماذا لا ترى الدولة أن القطاع الصناعي هو القاطرة التي تدفع القطاعات الأخرى إلى التوسع والارتقاء؟ لماذا لا تزال الدولة تتصور أن قطاع الخدمات يمكن أن ترتفع فيه القيمة المضافة دون أن يكون جزءا من اقتصاد صناعي؟
هذه الأسئلة تقوم بقوة لأن المشكلات والملاحظات التي يشكو منها القطاع لا زالت كما هي تتكرر سنة بعد سنة وحكومة بعد حكومة دون أي إجراء ايجابي حقيقي رغم اللقاءات والاجتماعات والتصريحات والكتابات والاحتجاجات الكثيرة. وهنا يمكن التأكيد على عدد من المسائل وردت على لسان الصناعيين.
أولاً : غياب سياسة صناعية واضحة للدولة ما وضع الصناعة الوطنية في حالة ارتباك دائم. يفاقم من ذلك عدم اكتراث موظفي الدولة في القطاع بمجمله. فلا يعني الموظف إغلاق مصنع أو رحيل مستمر أو تعثر شركة.
ثانيا: غياب الفريق الاقتصادي في الحكومة عن مجريات الأحداث . فلا وزارة الصناعة لديها رؤية، ولا وزارة المالية يعنيها نجاح الاستثمارات، ولا القطاع المالي يعنيه الشركات الصغيرة والمتوسطة.
ثالثا :غياب الشراكة الحقيقية بين القطاعين الرسمي والخاص وانفراد الحكومة بالسياسة والقرار وإصدار التشريعات رغم تشكيل اللجان والمجالس المشتركة. وهي طريق مسدود لا يوصل إلى أي نتيجة ايجابية.
رابعا: عدم استقرار التشريعات المتعلقة بالاستثمار والتعقيدات المرافقة لأي مشروع واضطرار المستثمرين إلى “الطرق غير الأصولية” أو نقل الاستثمار إلى بلد آخر .
خامسا: غياب القوانين لدعم الصناعة الوطنية، و انفتاح باب الاستيراد على مصراعيه. ما وضع الصناعة الوطنية و الزراعة و الخدمات الأخرى في منافسة غير متكافئة مع عشرات من الدول التي تعطي لصناعاتها الدعم والتسهيلات والطاقة المدعومة والنقل الحديث.
سادسا: اتفاقيات التجارة الحرة غير المتكافئة مع دول صناعية أو ناهضة تعطي قطاعاتها الإنتاجية الدعم بأشكال مختلفة ولها سياسات اقتصادية وصناعية واضحة و قطعت في التصنيع أشواطا متقدمة. مما يجعل الإتفاقيات مجرد مكسب سياسي مقابل خسائر اقتصادية كبيرة.
سابعاً : ابتعاد الصناعة عن البحث والتطوير واتساع الفجوة بين المراكز الأكاديمية وما بين الصناعة.
وحتى لا نستمر في إضاعة الفرص و انتظار المساعدات وحتى تكون لنا برامج صادقة في تخفيض البطالة و محاربة الفقر و تمكين المواطن من مواجهة متطلبات المعيشة بكرامة و حتى نصل إلى المستقبل المزدهر الذي يستحقه الأردن علينا أن نبدأ بالتصنيع.