يصعب أن نجد بلدا متقدما تكون لديه مؤسسات ناجحة وعريقة، ويسعى إلى الانتهاء منها أو إفشالها أو إعاقة تطويرها، لأنه يريد أن يعتمد على سوق البيع والشراء، أي “التجارة بدلا من الإنتاج”. وكأن المسئول لدينا لا يعنيه الفرق بين القيمة المضافة في التجارة والقيمة المضافة في الإنتاج، ولا يحرص على أن يرى المستقبل وتطوراته من خلال التوسع في التصنيع والتكنولوجيا، وخلق فرص العمل الجديدة التي نحن بأمس الحاجة إليها. ويكتفي البعض بالنظر إلى الحاضر يوما بيوم، وكأنه في سوق تجاري بسيط. لا فرق بين الدجاج أو الجزر الذي أصبحنا للأسف نستورده من اسبانيا وتركيا والأرجنتين، بعد أن كنا منتجين بل ومصدرين، لا فرق بين كل ذلك، وبين المشتقات النفطية، بكل وزنها الاستراتيجي وحيويتها المطلقة لكل تفاصيل الحياة الإنسانية والمدنية والعسكرية على حد سواء.
يتحدث وزير الطاقة عن المصفاة من منظور أحادي مؤقت، وهو توليد الكهرباء والاعتماد على الغاز؟. إن الطاقة الكهربائية تستهلك 40% من الطاقة الأولية، وهي في معظمها مشتقات نفطية، إلى أن حل الغاز محل الديزل والوقود الثقيل لتوليد الكهرباء.. ماذا عن بقية فاتورة الطاقة ؟ ماذا عن الـ 60% ؟ ماذا عن الصناعة وماذا عن النقل؟ وماذا عن الاستهلاك المنزلي؟ وحسب ما يبدو، فإن وزارة النقل لا ترى نفسها طرفا وشريكا رئيسيا في موضوع المشتقات النفطية و ضرورة توفيرها، هذا في الوقت الذي يستهلك فيه قطاع النقل 42% من الطاقة الأولية، ويستهلك مشتقات تنتجها المصفاة أكثر من الكهرباء. ومع هذا فإن مستقبل المصفاة يراد له أن يصبح مرهونا باحتياجات قطاع الكهرباء فقط. ماذا عن الصناعة؟ أليست وزارة الصناعة طرفا في الموضوع ؟ ألا تحتاج الصناعة إلى مشتقات نفطية؟ أليس التكرير وتحويل النفط إلى مشتقات يمثل جزءا من الصناعة المتقدمة والهامة؟ ألا يوجد صناعات مرافقة للتكرير قبلية وبعدية نحن بأمس الحاجة إليها ؟. و على وزارة الصناعة تشجيعها، و على مؤسسة تشجيع الإستثمار أن تحفز المستثمرين في إتجاهها ؟
لقد تمكنت الحكومة للأسف من إلغاء واحدة من أهم المؤسسات الوطنية المتخصصة ذات العلاقة بمصادر الطاقة، وهي سلطة المصادر الطبيعية، بكل الخبرات والمعلومات والبرامج المتراكمة التي كانت لديها. فعلت ذلك الخطأ الكبير بحجة ترشيق الإدارة، و أن ليس كل البلدان فيها سلطات مشابهة. و كانت قبل ذلك أهملت خط التابلاين من خلال عدم الإهتمام بصيانته و رغبة في توفير التكاليف السنوية للصيانة والتي لم تكن تتجاوز بضعة ملايين من الدولارات سنويا.
و يتمثل بعض المسئولين بالنموذج اللبناني في إلغاء دور الخطوط و المصافي بعد إغلاق مصفاتي الزهراني و طرابلس منذ أكثر من 20 عاما، والاعتماد على استيراد المشتقات. و هنا لا بد من التأكيد على أولا : أن لبنان تدرس حاليا إمكانية إعادة تشغيل إحدى المصفاتين أو إنشاء مصفاة جديدة بكلفة 2 مليار دولار بتمويل قطري و باستطاعة 150 إلى 200 ألف برميل سنويا بهدف تخفيض كلفة المشتقات بما يزيد عن 30% كان يتحملها المستهلك على مدى السنوات الماضية. ثانيا أن لبنان ليس هو النموذج الأفضل في هذا الأمر.. فالشارع اللبناني يحكم نفسه بنفسه، والحكومة محدودة الإمكانات،وإذا انقطعت الكهرباء هناك، و كثيرا ما تنقطع، يلجأ الناس إلى المولدات الخاصة. وعمليات الاستيراد والتصدير في المواد النفطية هناك عليها علامات استفهام كبيرة من حيث الإنضباط والإلتزام والغش، وغياب الرقابة ،بل وغياب أي دور فاعل للمؤسسة الرسمية. حين ينقطع الديزل أو البنزين أو الكيروسين في لبنان، يتصرف كل مواطن بالطريقة التي تروق له. هل هذا ما نريده بعد نجاح استمر أكثر من 50 سنة في أعمال المصفاة بكل الرقابة الحكومية و الإلتزام؟
ومن الغريب تصريح وزير الطاقة، كما نقلته الصحف، “بأن المصفاة ليست خصما ولا نعاديها ولكن في نفس الوقت لا نقبل أن يدار مستقبلها على حساب المستهلكين وسلعة غير اقتصادية” آي إدارة على حساب المستهلكين يتحدث عنها الوزير؟. إن كفاءة المصفاة الأردنية تعادل كفاءة المصافي في الدول الأخرى و تتراوح من 92% إلى 95% للسنوات العشر الماضية على الأقل. وأي سلعة غير اقتصادية يتحدث عنها ؟ لقد عاصرت المصفاة مختلف أسعار النفط ، إبتداء من 5 دولارات للبرميل و انتهاء بأكثر من 100 دولار للبرميل،و كررت أنواعا مختلفة من النفوط السعودي والعراقي والكويتي و غيرها، و لم يكن هناك أدنى شك بكفاءة العمل و الإنتاج. و لكن حين قارب الإمتياز على الإنتهاء عام 2008 و كانت الحكومة مترددة في موقفها من الإمتياز تماما كما كان الأمر مع شركة الكهرباء، انتعشت الأقاويل والقصص و الإفتراضات حول عدم كفاءة المصفاة وعمرها و تقادمها، و كأن المصفاة سيارة ينبغي تغييرها كل بضع سنوات، و روج لذلك بقوة أصحاب المصالح في الإستيراد، حتى لا يتم تجديد عقد الإمتياز . و للأسف صدقت الحكومة ذلك دون تفكير أو تمحيص و دون الرجوع للخبراء، و دون إدراك علمي هندسي و إقتصادي و سياسي أن المشاريع و الصناعات الكبرى هي في حالة تجديد و تطوير و تحديث دائم و لعشرات و عشرات السنين. فقررت عدم تجديد الإمتياز و فتح السوق للاستيراد.
هل يعقل، و في عام 2015، و في هذه الظروف الإقتصادية و السياسية و الإقليمية المعقدة و النمو الإقتصادي المتواضع 3.5% الذي تشهده البلاد، أن الحكومة لا تعنيها المؤسسات الصناعية الوطنية؟ ولا يعنيها التقدم في تصنيع الإقتصاد الوطني؟و لا تميز بين “مصفاة بترول” و بين “ورشة” يمكن الإستغناء عنها في أي لحظة؟ هل يعقل أن الحكومة لا تدرك الفرق بين التجارة لترويج المنتجات الوطنية و بين التجارة التي تقوم على المستوردات الأجنبية؟ لماذا لا ننظر إلى الصناعات على أنها مؤسسات وطنية تشكل جزء من بنية الاقتصاد الوطني؟، وعلينا آن نعمل معاً ودائما على دعمها لتطويرها و تحديثها و تحسين منتجاتها دون غبن بالمستهلك؟ وعلينا أن نساعد على تصدير منتجاتها، والإضافة إليها، لا إضعافها و التشكيك به و الانتقاص منها أو إلغائها بدون مبرر إقتصادي أو تكنولوجي أو استراتيجي.
هل يضمن أحد كيف ستكون أسعار النفط و مشتقاته بعد (5) سنوات وبعد (10) سنوات؟ هل يضمن الوزير كيف ستكون خطوط إمداد المشتقات النفطية بعد سنوات أو إذا زادت الاضطرابات في المنطقة؟ آو أذا توقف الغاز لأي سبب غير متوقع ؟ كما توقف الغاز المصري، وقبله اختفى فجأة الغاز الأردني الذي كنا سوف نصدره عام 2020؟. انه موقف غير موفق أبدا. إذ يجب المحافظة على المصفاة و الكهرباء و جميع المرافق و الصناعات الكبيرة والمتوسطة، وتنميتها، وتنمية الصناعات القبلية و البعدية المكملة لها و فق برنامج وطني تشاركي، بدلا من الاعتماد على الاستيراد في كل شيء،إبتداء من الليمون و الملابس و ألعاب الأطفال و انتهاء بالطائرات و وقودها، و كأننا لم نتعلم من التجربة الأليمة لليونان، و التي كان منطلقها ارتفاع المديونية، و الإفراط في الإستيراد، و نحن بالضبط كذلك. كما يجب التوسع في الصناعات الكيميائية البترولية ما أمكن ذلك.لقد كان من المفترض أن تلتقي وزارت الصناعة والطاقة و النقل بوجود الخبراء للبحث في كيفية تحويل المصفاة وخبراتها الصناعية إلى نقطة انطلاق لصناعات جديدة ومشاريع جديدة وان يتم تجديد امتياز المصفاة، و بشروط جديدة من منظور وطني تحقق الهدف الإستراتيجي الرئيسي، و هو توسيع و تمتين و تعميق البنية الإقتصادية للدولة، و تأخذ في الإعتبار التغيرات المتوقعة في مستقبل النفط والطاقة و المنطقة بأسرها.