تلخص الحادثة المؤلمة بقتل القاضي الجليل رائد زعيتر، و قبل ذلك الاغتيال المبرمج للنشطاء الفلسطينيين ، تلخص” جوهر الحالة الإسرائيلية القائمة على ديمومة الحقد والكراهية والعدوان والعنجهية الاستعمارية التقليدية”. و كأن العقل الذي يدير ذلك الكيان بكل وحشيته وخسته لم يغادر إطراف القرن التاسع عشر.
و من هنا لم تكن تصريحات بنيامين نتنياهو حول الشرطين الرئيسين للاستمرار في “مفاوضات السلام الصورية” مفاجأة لمن يتابع المخطط السياسي الإسرائيلي، ولمن يتابع سياسات وبرامج اليمين بقيادة نتنياهو و ليبرمان و تسيفي ليفني و سواهم الكثير. أما الشرط الأول فهو تنازل الفلسطينيين عن حق العودة، واعتباره أمراً منسيا وكأنه لم يكن. و يحاول نتنياهو بذلك أن يتذاكى، و يتناسى بأن حق العودة هو حق شخصي ،لا تملك أي سلطة أو حكومة أو أي أحد أن يتنازل عنه سوى صاحبه فرداً فرداً. لأن ذلك يختص بعودة اللاجئ إلى بيته وممتلكاته، والتعويض عن الأضرار التي لحقت به. ويحاول نتنياهو بذلك و بكل غطرسة استعمارية بغيضة أن يطلب من الفلسطينيين أن يتنازلوا عن تاريخهم وبلادهم و بيوتهم، ويعتبروا أنفسهم مجرد لاجئين حيث هم. الشرط الثاني الذي يطلبه نتنياهو هو اعتراف الفلسطينيين بيهودية الدولة القائمة على الأراضي الفلسطينية. ومع أنه هو أو غيره من قادة اليمين و منظريهم لم يضعوا تعريفا ليهودية الدولة، كما أنه لا يوجد تعريف في القانون الدولي لنسبة الدولة إلى الديانة.و الأسئلة كثيرة: هل هي من حيث ديانة الناس، وجميع الدول لها دياناتها؟ أو من حيث الأشخاص أو العقائد ؟ أو من حيث العلاقات مع الآخرين، أو من حيث احتكار اليهود لحق الإقامة فيها دون غيرهم، على طراز النازية؟ أو أنها تعني إلغاء وجود من هو ليس بيهودي كما كان الأمر في جنوب أفريقيا؟ ومتى يبدأ هذا الإلغاء وما هي حدوده؟ وهل الدولة اليهودية تعني ما ورد في كتب اليهود من حدود ومساحات وأماكن؟ أم يطمح إليه اليهود المعاصرون؟ وهل المقصود يهود أمريكا، أم يهود فرنسا أم يهود إسرائيل أم يهود روسيا؟ أي عنصرية مجنونة يتحدث عنها نتنياهو؟. و هناك مفاجآت في مفهوم يهودية الدولة أكثر تطرفا ينتظر نتنياهو الإفصاح عنها في الوقت المناسب.
ويهدف نتنياهو واليمين الإسرائيلي بمفكريه ومنظريه إلى إلغاء حقيقة الوجود الفلسطيني في فلسطين منذ أقدم العصور وحتى الآن ، ويريدون ، وهم الذين اغتصبوا فلسطين قبل أقل من سبعين عاما فقط ، أن يعترف الفلسطينيون بأنهم طارئون على فلسطين، في حين أن واقع التاريخ و كتبه تؤكد أن اليهود هم الطارئون على أرض فلسطين، والغزاة لها منذ أيام هجرتهم الأولى من مصر قبل (3000) سنة، واستمرارهم على الأرض الفلسطينية لفترة قصيرة ،ثم خروجهم وتشتتهم ،إلى أن عاد اليهود الجدد إلى ارض فلسطين كغزاة ومستعمرين في مطلع القرن العشرين.
وبين يهودية الدولة، والإصرار على الاحتلال والتوسع، ورفض التعايش مع الآخر، و مخالفة القانون الإنساني والدولي، تتعاظم العدوانية الإسرائيلية إلى الدرجة التي حولت إسرائيل إلى وحش يريد أن يلتهم كل ما حوله. وهذه الوحشية لا تستطيع الكلمات الدبلوماسية أن تخفيها لأنها تأصلت في السلوك والعقل والنفس والأطماع الإسرائيلية. وهذا يفسر الجريمة البشعة التي ارتكبها الجندي على معبر الكرامة، حين قتل بدم بارد وبدموية عنصرية مريضة القاضي رائد زعيتر. هذا القاضي الذي يمثل حالة الإنسان الحضاري الراقي إزاء المستعمر المتوحش المرعوب على مستقبله ، ويمثل الحر إزاء المحتل، و الضحية إزاء الجلاد، و المدافع عن الحق والعدل، إزاء المتعفن في العقل والروح والقيم.
صحيح أن الإسرائيليين لا يمر يوم واحد دون أن يقتلوا أو يعتقلوا أو يجرحوا أو يشوهوا مواطنا عربيا، ابتداء من الأطفال والنساء، وانتهاء بالقضاة والفنانين .إلا أن توقيت الغدر بالقاضي رائد زعيتر جاء ليعبر عن الحالة التي تخندقت بها إسرائيل وهي حالة العدوان والتوسع و إلغاء الآخر و استعداء كل ماهو إنساني.
وهنا يبرز السؤال: أي سلام يمكن أن يتأتي عن هذه القيادات و الأحزاب بل والجماهير التي توصل هؤلاء إلى الحكم؟ وأي مفاوضات سوف توصل إلى نتائج عادلة من خلال هذا التطرف العنصري النازي الأعمى الذي يسود الدوائر الحاكمة والمفكرة والمثقفة في إسرائيل؟ أي سلام يفاوض عليه نتنياهو، وهو يقصف غزة بالصواريخ، و يحاصرها برا وبحرا وجوا، باعتبارها أكبر سجن أو أكبر معسكر اعتقال في العالم؟. أي سلام يفاوض عليه والجرافات الإسرائيلية تقطع الشجر الفلسطيني، وتدمر البيوت والمدارس، لتقيم مكانها المستوطنات التي تأوي غلاة المستعمرين.
أن جولات جون كيري لن تنتج شيئا. لان الإدارة الأمريكية المنحازة كليا، والمتحالفة بنيويا واستراتيجيا مع إسرائيل، و كيري نفسه ،لا تعنيها النتائج و إنما تعنيها العملية التفاوضية بذاتها. و كيري يتبنى الموقف الإسرائيلي بكل حذافيره، ويحاول تسويقه لدى الفلسطينيين، أو إجبارهم على القبول به. وأهم ما في جعبة كيري من الألاعيب الإسرائيلية نسيان حق العودة، ويهودية الدولة. فهل يشتري الفلسطينيون و العرب هذه البضاعة الفاسدة، حتى لو تم تغفيلها بأجمل الرسوم والأوراق؟.
سوف تستمر إسرائيل على هذا المنوال من المراوغة والعدوانية تجاه كل ما هو عربي، وتجاه كل ما هو فلسطيني، و تجاه كل ما هو أنساني، سواء كان طفلا فلسطينيا أو قاضيا اردنيا أو شجرة مثمرة في أعلى تلعة خضراء. ولن يتغير الأمر إلا إذا تغير الفلسطينيون أنفسهم أولا، فانهوا حالة الانقسام، واستخدموا كل طاقاتهم لإعادة الجماهير العربية إلى جانبهم، ليكون لهم مكان أقوى في المجتمع الدولي، والذي راح يضيق ذرعا بالعنصرية والعنجهية الإسرائيلية . و نحن في الأردن آن لنا أن نقاطع على المستوى الشعبي كل ما هو إسرائيلي و أن نطالب بالإدانة الفورية الكاملة و الحكم الناجز على القاتل الإسرائيلي،و التعويض المادي والمعنوي لأسرة الشهيد، و إطلاق سراح السجين الدقامسة، إضافة إلى كافة الإجراءات الدبلوماسية والقانونية اللازمة. ليس من مستقبل لعملية السلام إلا إذا شعر الإسرائيليون أن كلفة الاحتلال قد ارتفعت، وثمن العنصرية أصبح خارج إمكاناتهم، والفلسطينيين متحدين متمسكين بحقوقهم و العرب جميعا معهم.