اهتم الإعلام الغربي والأميركي خاصة بالمناظرة التي جرت بين الرئيس الأميركي جو بايدن والرئيس السابق دونالد ترامب، وانطلق الإعلام العربي في نفس الاتجاه. وذهب الكثير من السياسيين للبحث والتفكير ماذا سيكون موقف كل رئيس من القضايا العربية؟ وخاصة القضية الفلسطينية.؟ وأطلق البعض العنان لخيالهم ليفاضل بين هذا وذاك، خاصة وأن الجالية العربية في أميركا تميل إلى تأييد الديمقراطيين وتعطيهم الأفضلية على الجمهوريين. وحقيقة الأمر أن المناظرة الماضية والمناظرة القادمة لا تعدو أن تكون مناظرة بين رجلين ليظهر كل منهما مواهبه وإمكاناته وحنكته ولياقته وقدرته للتأثير على الجمهور، وليست مناظرة سياسية بالمعنى العميق. صحيح أن ترامب تفوق على خصمه بايدن بالحيوية ولغة الجسد والتحرك من موقف هجومي في حين بدا بايدن ضعيفا مشتتا، إلا أن هذا ليس جوهر المسألة. ذلك ان المنطقة العربية يسيطر على معظم دولها الحكم الفردي والسلطوي، ولذا فإن الزعيم العربي يستطيع أن يقرر ما يشاء ابتداء من المصالحة وتصفير الخلافات الداخلية مع الجوار، وانتهاء بشن الحروب وما بينهما. فإذا أضفنا إلى ذلك ما تقوم به إسرائيل من اعتداءات ودسائس وفتن وانقسامات فقد انزلقت المنطقة العربية في مستنقع من عدم الاستقرار وغدت ساحة مفتوحة للتدخل الأجنبي. أما الدول الديمقراطية، ومنها الولايات المتحدة الأميركية، فإن سياسة الدولة وخاصة الخارجية منها، وضوابط مصالحها الإستراتيجية، تضعها مؤسسات الدولة الراسخة التي لا تتغير بتغير رئيس الدولة، ولا حتى بمن يرأس المؤسسة ذاتها. إنها مؤسسات شديدة العمق والتشابك والرسوخ والتداخل. صحيح أن الرئيس الأميركي وكثير من الزعماء الأوروبيين لدى الواحد منهم هامش للحركة، وخاصة في السياسات الداخلية والجانب الاقتصادي بشكل كبير، باعتبار هذا الجانب محط اهتمام الناخبين وموجه اختياراتهم.
وهذا يستدعي أن يغير العرب من رؤيتهم للسياسة في الدول الأخرى وخاصة أوروبا والولايات المتحدة والدول الكبرى الأخرى. هذه دول لها مصالحها، وكل رئيس، سواء كان بايدن أو ترامب أو فورد أو بوش، يسعى لخدمة هذه المصالح ولا يفكر في أي مشكلة خارجية إذا كانت لا تمس المصالح الوطنية أميركية أو أوروبية. ومن هنا فلا ينبغي للإعلام العربي أن يضخم من أهمية المناظرات واللقاءات، بل وحتى الانتخابات وتعاقب الرؤساء. فمنذ عام 1945 وحتى اليوم توالى على كرسي الرئاسة الأميركية (13) رئيسا بين ديموقرطي وجمهوري، وفي بريطانيا توالى 17 رئيس وزراء بين عمال ومحافظين، فهل تغيرت سياسة الولايات المتحدة أو بريطانيا تجاه القضايا العربية وخاصة ازاء القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي؟.كلا. إذ لم تتوقف المساعدات المالية والعسكرية والتكنولوجية والاستثمارية والاستخباراتية الأميركية والبريطانية لإسرائيل رغم تغير الإدارات من جمهوريين إلى ديمقراطيين وكذلك الحال في السياسة البريطانية بين العمال والمحافظين.
لقد آن لنا أن ندرك بشكل يقيني أن سياسات الدول المتقدمة تتغير في حالتين اثنتين فقط: الأولى تعرض مصالحها للخطر والثانية الخوف من اختلال التوازن الإستراتيجي مع الدول أو المعسكر المنافس. وحين تكون المنطقة العربية بمثل ما نشاهد من انقسام وتشرذم وتقاعس، واعتماد كامل على أميركا وحلفائها في المال والدفاع والتكنولوجيا والغذاء بل والشرعية كما شاهدنا في السودان، وحين تكون إسرائيل اداة فعالة في الانقسام والتشرذم العربي بل والانقسام الفصائلي في فلسطين لمصلحة الاستعمار الصهيوني والهيمنة الأجنبية، فلماذا التوقع أو الافتراض بأن تتغير سياسة أميركا أو بريطانيا أو غيرها اتجاه القضايا العربية وفي مقدمتها القضية الفلسطينية بتغير الرؤساء.؟ إن الدول لا تقوم بأعمال الدول الأخرى نيابة عنها. فالدول تتحرك وتعمل وتضحي من أجل مصالحها هي، لا مصالح «الآخرين». والمنطقة العربية بالنسبة لأوروبا وأميركا وربما غيرها مجرد «آخرين»، بل منطقة نفوذ اقتصادي وسياسي وإستراتيجي.
هل يستفيق العرب على المستوى الوطني لكل دولة، والمستوى القومي للدول العربية ككتلة حضارية فيعملون لأجل تحقيق مصالحهم بعرقهم ودمائهم وأموالهم وتضحياتهم وصناعاتهم وإبداعاتهم ويبنون مستقبلهم بأنفسهم؟ ذلك ما يجب التفكير فيه، والعمل من أجله، لا هل يأتي بايدن أو يأتي ترامب.