على مدى أكثر من تسعين عاما، و في منطقة مضطربة لم تسلم من التدخلات الأجنبية ولم تعرف الاستقرار والهدوء منذ مطلع القرن العشرين، نجح الأردنيون شعبا و قيادة وإدارة في بناء دولة قوية حيوية، مستقرة متماسكة، و تمتلك الكثير من متطلبات الدولة الحديثة. وهو إنجاز تقتضي الوطنية والمواطنة المحافظة عليه بكل الإصرار والتضحيات والوسائل، و في مقدمتها المحافظة على حيوية وإنتاجية مؤسسات المجتمع و مواصلة التطوير والتحديث بكامل العقلانية والجدية. و قد ركز رئيس مجلس النواب المهندس عاطف الطراونة حديثه في الجلسة الحوارية للجمعية الأردنية للعلوم السياسية، على الخطوة الإصلاحية الغائبة والمغيبة و هي “إصلاح قانون الانتخاب”، وضرورة الخروج السريع من قانون الصوت الواحد الذي أثرت تطبيقاته سلبا “ على مستوى التطور النيابي من جهة سياسية، وساهمت في تفتت القيم الاجتماعية والتفكك العشائري كما أثرت سلبا على التمثيل العادل. “ و إن القانون كان من نتائجه أن قدم العلاقات الاجتماعية على الدور السياسي، وكرس هوية النائب ليكون نائب خدمات وليس نائب برامج وطنية شاملة، وجعل النائب يمثل المنطقة وليس الوطن”. هذا القانون مضى عليه (22) سنة، وهو محل نقد ورفض من معظم القوى والشخصيات والأحزاب السياسية والفكرية عاما بعد عام ، ومع هذا فلا زال البعض متمسكا به رغم كل عيوبه ، ورغم كل النتائج السلبية التي تمخض عنها والتي كشفتها الكثير من الدراسات. لا أحد يفهم “الحكمة الإيجابية الخفية” من التمسك الشديد بهذا القانون والى متى سيظل كذلك، رغم الحقيقة الساطعة وهي أن لا بديل أبداً عن الإصلاح السياسي الشامل و المتمثل في الحكومات البرلمانية الحرة، و الانخراط في الديمقراطية والمشاركة وتعزيز قيم وممارسات المواطنة والفاعلية في التمثيل والكفاءة في الاختيار وتحويل مؤسسات الدولة وسلطاتها لتدعيم و تحديث بنيان الدولة، و لخدمة الوطن والولاء له وليس لجماعة أو حزب أو عائلة . إن التغيرات الكاسحة والفوضى العارمة والاضطراب المدمر في المنطقة قد نشأت في الجزء الأكبر منها عن أخطاء وخطايا تراكمت على مدى السنين في الفكر والسياسة والممارسة والانفراد بالسلطة والطائفية وغيرها . كل ذلك ينبغي أن يكون حافزاً لنا على حماية منجزاتنا الوطنية، و بالتالي سرعة إنجاز الإصلاحات المطلوبة في السياسة والاقتصاد والفكر والثقافة لتعزيز الجبهة الداخلية وتقوية المؤسسات والمشاركة الشعبية في صنع القرار وفي الرقابة على الأداء. و لا ينبغي للأحداث في المنطقة أن تكون عذرا للتوقف عن الإصلاح أو التباطؤ فيه . و ما يجعل الأردن مختلفاً عن غيره من دول المحيط، أن الأردنيين جميعاً يقفون مع نظامهم وقيادتهم ودولتهم ومؤسساتها الأمنية والعسكرية والمدنية بإخلاص و ثقة. وليس هناك إلا القلة الشاذة الضئيلة جدا التي يمكن أن تكون غير ذلك. وهذه الحالة من التقارب والتماسك المجتمعي و الرسمي هي مصدر القوة والمنعة وهي لم تكن موجودة في أي من البلدان المجاورة كسوريا والعراق وليبيا واليمن التي تعاني الآن من الفوضى والتدمير الذاتي . إن أمن الوطن، الدولة الأردنية، له الأولوية المطلقة دائماً، وليس هناك أفضل من الإصلاحات السياسية و الإقتصادية والأيديولوجية لتعزيز الأمن ومنحه مزيداً من القوة. إن إلغاء قانون الصوت الواحد و استبداله فورا بقانون” الثلاثة أصوات: وطن_محافظة_لواء” يأتي على رأس قائمة الإصلاح السياسي، و من شأنه أن يضع حداً للإنقسام العشائري أو الجهوي بسبب الانتخابات ،والذي قد تحاول بعض القوى استغلاله أو تضخيمه. إن الديمقراطية الحقيقية والحياة البرلمانية السليمة التي تضع النائب والمواطن على حد سواء أمام الوطن، وليس أمام عائلته أو جماعته، وأن حكم القانون ومعطيات المواطنة الحقة والمشاركة الشعبية والحاكمية الجيدة في إطار المؤسسات والعمل الحزبي الوطني، كلها جزء من ضمانات الأمن وإعطاء الأجهزة الأمنية والعسكرية الفرصة الأفضل للقيام بدورها باطمئنان وثقة ، وهي الطريق السريع و المأمون لتحصين الجبهة الداخلية . لقد كانت السنوات الخمس الماضية دليلاً قاطعاً على أن التهرب من استحقاقات الإصلاح لم تكن فيه أي ميزة ايجابية بل العكس تماماً. وإذا تأملنا المنطقة العربية، بعيداً عن نظرية المؤامرة التي لا يمكن أن تنجح إلا من خلال مواطن الضعف الداخلية، فإن علة هذه المنطقة منذ سنين وعقود، أنها دأبت على التهرب من استحقاقات الإصلاح، واعتادت على مواجهة صدمة المستقبل بتجميد الحاضر،أو بالهروب إلى الماضي. ورغم ذلك لم تصدم المسئولين فيها وجزء من السياسيين حالة التراجع والتخلف التي تعيشها المنطقة. فهي في الديمقراطية وفي حقوق الإنسان وفي المعرفة وفي التنمية والفساد والحاكمية الجيدة تأتي في ذيل القائمة الدولية. نحن في الأردن لدينا الفرصة والقدرة على أن نواجه صدمة المستقبل والتغيير بشكل أفضل، لأن الإصلاح الاقتصادي والسياسي والأيديولوجي أقرب إلينا من غيرنا وليس هناك أسباب موضوعية للالتفاف عليه. و لكن علينا أن نعقد العزم وأن نبلور الإرادة ونشرع في العمل. فالعواصف لا تنتظر المترددين.