في الاول من ايار كان يوم العمال، وهو يوم عالمي ووطني بامتياز للاحتفاء والتقدير للشريحة الواسعة من المجتمع، التي تحمل على اكتافها مهام العمل والإنتاج والخدمات في كل اتجاه، وفي كل موقع. وهي المحرك الرئيسي في صنع الثروات الوطنية والمؤسسية والفردية. و هي بذلك تستحق دائما تحسين واقعها والتفكير و العمل من أجل مستقبلها.
وفي هذا العام، اذا جاز بأن نسميه عام الكورونا، فقد تضرر ما يقرب من 2.25 مليون عامل في بلدنا، و75 مليون عامل على المستوى العربي، و1600 مليون عامل على مستوى العالم، ما بين عمالة منظمة وأخرى ليس كذلك. فخسر حوالي 150 ألف عامل لدينا عملهم، بينما تراجعت أجور ومداخيل مايقرب من 1 مليون عامل نتيجة لتعطل الأعمال لمدة طويلة قد تمتد إلى اشهر قليلة قادمة. اذ لا يتوقع ان تستعيد الاعمال ومختلف النشاطات الاقتصادية كامل طاقتها قبل عام أو أكثرمن اليوم، الامر الذي سيؤدي إلى تخفيض وإرباك في دخل العمال في كل مكان.
والملاحظ في هذا الشأن ان تغيرات جذرية اصبحت على الابواب مما يتطلب التفكير والتدبير المسبق، حتى لا تدخل البلاد في ازمة اجتماعية اقتصادية بالغة التعقيد.
أولاً: ان تكرار ظهور اوبئة كاسحة ومفاجئة تجتاح العالم بأسره لم يعد امراً مستبعداً، بكل ما يرافق ذلك من توقف لعجلة الإقتصاد وتعطل للعمال لفترات طويلة. فما هو السبيل لمواجهة ذلك.؟
ثانياً: ان ازمة الكورونا حفّزت “العمل عن بعد واقتصادياته”، ومن المتوقع ان يتم تطوير انظمة حاسوبية ولوجستية وهندسية جديدة، تجعل العمل عن بعد او “العمل من المنزل” اكثر انتشاراً، مما سينعكس سلباً على الكثير من المهام العمالية الراهنة، ومما سيؤدي إلى ارتفاع البطالة بين الشرائح العاملة. فهل هناك بدائل لمواجهة الموقف؟
ثالثاً: سوف يتم خلال السنوات القليلة القادمة التوسع في استخدام الروبوطات في الكثير من الصناعات وخاصة التجميعية، والخدمات ذات الطبيعة النمطية المتكررة كخدمات المطاعم والفنادق، وكذلك إنتشار تدريجي للزراعة الذكية وطائرات الدرون، ألأمر الذي سيؤدي إلى الاستغناء عن كثير من العمالة البشرية خاصة وان الترتيبات الصحية والوقائية ستكون اقل تعقيداً مع الروبوطات والأنظمة الذكية.
رابعاً: ان الثورة الصناعية الرابعة والتي هي اليوم في عامها العشرين، بكل ما تحمله من ذكاء اصطناعي، وروبوطية، وانترنتة الاشياء، والعالم الافتراضي والمدمج، سوف تؤدي إلى الاستغناء عن كثير من الوظائف والأعمال التي يقوم بها الانسان في أيامنا هذه. ويقدر الخبراء بأن 30% من الوظائف المعروفة اليوم في كثير من الدول النامية، سوف تختفي او تتضائل بدرجة كبيرة بحلول عام 2035 اي في غضون 15 سنة من اليوم. وهذا من شأنه أن يدفع بمعدلات البطالة إلى الارتفاع بنسب متسارعة، بما في ذلك عودة أعداد كبيرة من المغتربين. إن جزء كبيرا من هذه البطالة سوف يصيب الشرائح والمجموعات العمالية المختلفة. فهل هناك مجال للعمل باتجاه يحافظ على عمالة العمال وظروف معيشتهم المناسبة؟.
هذه الازمة الحالية والتتغيرات المستقبلية ستقع على المستوى الوطني والمستويات الاقليمية والدولية، وليس هناك من حلول جماعية جاهزة يمكن استيرادها، وإنما على كل دولة ان تعمل وفي وقت مبكر، في اطار امكاناتها الاقتصادية والاجتماعية والبشرية لصياغة الحلول اللازمة. ويمكن للتعاون الدولي اذا تحقق في هذا المجال ان يكون عاملاً مساعداً وليس بديلاً عن برنامج وطني في هذا الاتجاه ينبغي العمل عليه يتناول الابعاد الرئيسية التالية:
أولاً: توسيع مظلة الضمان الاجتماعي ومراجعة كلفة الضمان ليشمل جميع القوى العاملة وبما يتناسب مع الأجور، وبغض النظر عن حجم المؤسسة التي يعمل بها العامل او صاحب العمل.
ثانياً: انشاء مظلة اجتماعية تكون رديفاً للضمان الاجتماعي لتتولى شؤون القوى العاملة العاطلة عن العمل اذ لدينا في الاردن ما يقرب من 400 الف عاطل عن العمل.
ثالثاً: تخصيص جزء من اموال المعونة الوطنية لإقامة مشاريع انتاجية صغيرة ومتوسطة في المحافظات الأعلى في البطالة حتى تتراجع الاعداد المعتمدة على المعونة الوطنية تدريجياً انطلاقاً من مبدأ (تعليم صيد السمكة بدلاً من تقديمها جاهزة).
رابعاً: التوسع في انشاء صناديق الادخار للعمال، ليس فقط في اطار المؤسسة أو المصنع أو الشركة، وإنما على مستوى القطاعات الفرعية، والعمل على استثمار الادخارات في مشاريع انتاجية تكون عائداتها للعمال.
خامساً: تشجيع الصناعات المنزلية وتنويعها، من خلال مؤسسة متخصصة تتولى مهمتين رئيسيتين اولهما التطوير التكنولوجي للصناعات تلك، وثانيهما تسويق المنتجات وتوزيعها بأساليب حديثة. ويمكن الافادة من تجربة قبرص والهند في هذا الشأن.
سادساً: ان تقوم الحكومة بالتعاون الوثيق مع اتحادات العمال والنقابات المهنية وغرف الصناعة والاتحادات النوعية لتشكيل فرق من الخبراء لدراسة مستقبل العمالة في كل صناعة او خدمة او تخصص أو مهنة للتعرف على التغيرات التي هي في طريقها للحدوث. ما هو مثلاً مستقبل العمالة في السياحة؟ ما هو مستقبل العمالة في الزراعة؟ في صناعة الحديد؟ في الاثاث.. إلخ وعلى ضوء تلك الدراسات يمكن وضع التصور الوظيفي والتدريبي التأهيلي المتوقع للسنوات العشرين القادمة.
ثامناً: تتولى مؤسسات التعيلم والتدريب والثقافة والشباب تعديل برامجها بما يتناسب مع التغيرات المتوقعة في العمالة ونوعية العمل والمهام، حتى لا يفاجأ الشباب بما يجري في السوق، وحتى لا تتراكم البطالة بسبب التغير الادائي واللوجستي للعمل.
تاسعاً: يبقى هناك هامش واسع للحركة في الاردن ألا وهو الاحلال التدريجي التصاعدي للمستوردات بمنتجات محلية إضافة إلى سلع جديدة من خلال اقامة المشاريع اللازمة باعتبار ذلك الطريق الأساس لدعم العمال وتخفيض البطالة، خاصة وان مستورداتنا والتي تتجاوز 15 مليار دينار، يمكن انتاج 30% منها محلياً، وبسهولة كبيرة. وهذه من شأنها أن تفتح ما بين 150 ألف إلى 200 ألف فرصة عمل جديدة.
إن الاحتفال بيوم العمال يجب ان يحمل معه “رؤية مستقبلية و مبادرة حكومية يشارك فيها القطاع الخاص والعمال والخبراء والأكاديميون لوضع برامج وطنية و قطاعية مناسبة لمواجهة المشكلات المتوقعة، سواء كانت في الدعم المجتمعي او فرص العمل، او رفع مستويات الدخل، وفي مقدمة كل ذلك “التوقفات المفاجئة” في سوق العمل، والتغيرات المهنية والمهاراتية التي تفرضها الثورة الصناعية الرابعة”.