في خطابه المتميز على منبر الأمم المتحدة في دورتها الثامنة والسبعين في نيويورك تناول جلالة الملك عبدالله الثاني مسائل متعددة تأتي في مقدمتها القضية الفلسطينية، والأمن الوطني وخاصة أمن الحدود، وعبء اللاجئين على الأردن، وتقاعس المجتمع الدولي تقريبا عن مسؤولياته تجاههم، فلم يساهم الاّ بـ 38 % من احتياجاتهم، ثم إشكالية اللاجئين السوريين ومسؤولية بلدهم في إعداد متطلبات العودة الاختيارية الآمنة لهم. بعد ذلك اشار جلالته الى الصعوبات المعقدة التي تواجهها المنطقة نتيجة للتغيرات المناخية.
فمعدلات الهطول المطري انخفضت بشكل كبير في جميع الدول العربية على مدى السنوات الثلاثين الماضية وأصبحت تتراوح بين اقصاها 600 ملم في لبنان نزولا الى 250 ملم في الأردن وحتى 32 ملم في السعودية. هذا في حين ان المتوسط العالمي للهطول المطري 990 ملم. كذلك فإن الأيام الماطرة تقلص عددها إلى النصف تقريبا. فإذا أضفنا إلى ذلك أن 87 % من الأراضي في المنطقة العربية يسودها الجدب لانها قاحلة ودليل القحالة (aridity index) لا يزيد في المنطقة على 0.5 % مقابل
30 % في معظم دول أوروبا و70 % إلى 90 % في اندونيسيا. اما الغطاء النباتي فهو متواضع
ومحدود في حين أن الغابات لا تغطي أكثر من 10 % في معظم البلدان العربية، وهي 1 % لدينا في الأردن. كل ذلك في إطار معدلات الزيادة السكانية يعطي مؤشرات واضحة على خطورة الحالة المناخية العربية، وخاصة في تأثيراتها السلبية على توفر المياه وإنتاج الغذاء والتصدي للأمراض واستقرار السكان.
وعلى مدى الـ 70 عاما الماضية اخفقت الأقطار العربية في انشاء حالة من التكامل الاقتصادي بشكل عام، وفشلت في إنشاء مشاريع إستراتيجية ولوجستيكية مشتركة، سواء في المياه أو السكة الحديد أو شبكات النفط والغاز أو الشبكات الكهربائية ناهيك عن الصناعة والزراعة. وانسجاما مع الأطماع الإسرائيلية، وبعد النجاح في تفكيك كل من سورية والعراق وتدمير ميناء بيروت، تسعى الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا بشتى الوسائل السياسية والاقتصادية أن تجعل من إسرائيل عقدة الربط اللوجستي بين الأقطار العربية نفسها، ومع أوروبا. ولعل خط الهند-أوروبا الذي تم إعلانه في قمة العشرين قبل أسبوعين يمثل بداية دولية لهذا المشروع حيث سينطلق خط السكة الحديد من الهند باتجاه الإمارات عبر السعودية والأردن لينتهي في حيفا على البحر المتوسط. ومن حيفا إلى أوروبا. وأصبحت الكثير من الأقطار العربية ساحات مفتوحة للتدخلات الدولية المعلنة والخفية.
يعود الإخفاق العربي في التكامل بالدرجة الأولى إلى عوامل عدة في مقدمتها أولا: الاعتماد على المساعدات الأجنبية والقروض والمنح (باستثناء الدول النفطية الخليجية) كبديل للنهوض الوطني المبرمج وللتعاون الاقتصادي ثانيا: الاستعانة بالآخرين لمواجهة التغيرات والأحداث السياسية بدلا من الاعتماد على الشعوب نفسها ثالثا: استبدال التصنيع الوطني الشامل كما فعلت كوريا أو فيتنام مثلا، بالانفتاح غير المنضبط والاستيراد المفرط للسلع والخدمات رابعا:استسهال النقل واللوجستيك عبر الدول الأخرى في أوروبا أو أميركا. خامساً: سيطرة السياسة والسلطة على الفكر والثقافة النخبوية والجماهيرية.
ولكن المنطقة اليوم يداهمها خصم متوحش جديد لا تجدي معه التحالفات الأجنبية. ذلك ان التغيرات المناخية الكاسحة تحمل معها نقصا خطيرا في المياه، وازدياد التصحر، وانكماش المناطق الخضراء، وضآلة الأمطار، وارتفاع درجات الحرارة، وهشاشة الأمن الغذائي، وزيادة قحالة أو جدب التربة واحتمال غرق مساحات كبيرة من الاشرطة الساحلية. ان الصدمة التي ينبغي ان يستفيق العالم العربي لها أن الحلول التي يمكن ان تواجه هذه التغيرات لا يمكن استيرادها جاهزة سواء للمنطقة بكاملها أو لكل قطر بنفسه، ولا يمكن أن تحلها المساعدات والمنح الأجنبية.
وهذا يستدعي أن نسحب إشارة الملك في الأمم المتحدة حول المناخ من عموميتها لنركز من خلالها الضوء على الأردن والمنطقة العربية.
ان الآثار الاجتماعية المترتبة على هذه التغيرات خطيرة للغاية، وكما قال الأمين العام للأمم المتحدة انتونيو غوتيرش قد «فتحت أبواب جهنم». فهي ستوسع من مساحة الفقر لدينا وترفع معدلات البطالة، وقد وصلنا ارقاما قياسية 4 أضعاف المعدل العالمي تقريبا، وسوف تحفز هجرة العقول والمهارات إلى الخارج، وهجرة الريف إلى المدينة، إضافة إلى تخفيض معدلات النمو الاقتصادي والتبعثر السكاني وخلخلة بنيان الدولة.
والسؤال الكبير: إلى أي مدى ينظر السياسيون وقادة الدول والأجهزة الإدارية إلى الوضع المناخي وما يحمل معه من استحقاقات؟ وإلى أي مدى يرون الخطورة والالحاح في مواجهة التغيرات المناخية؟ وهنا لا بد من التأكيد على المداخل الرئيسية التالية: أولاً: ان مسؤولية الدولة منفردة ومتعاونة مع الآخرين أن تضع البرنامج الزمني والموضوعي للمواجهة بموازنة كافية بعيداً عن الانتظار والتوقع والتأجيل والتسويف ووهم الحلول الجاهزة ثانياً: ان بإمكان الدول العربية كمجموعات ثنائية أو ثلاثية أو بكاملها ان تتعاون في هذا الشأن من خلال اللقاء في «مؤتمر قمة عربي للمناخ» ليرسم بمساعدة الخبراء خطوط التعاون الممكنة وهي كثيرة. ثالثاً: ان الطاقة المتجددة بتنوعاتها، والصناعات المائية بفروعها الثمانية عشرة المختلفة، والزراعة المتطورة وتخضير المناطق الجافة، وتوسيع رقعة الغابات، والتصاميم البيئية هي الأعمدة الرئيسية لاي برنامج للمواجهة رابعاً: ان البحث العلمي والتطوير التكنولوجي والإبداع وتخصيص الأموال اللازمة لانشاء مراكز الابحاث المتخصصة في كل جزئية من التغيرات المناخية واستقطاب الكفاءات المتميزة قد يكون من أهم مداخل التعاون العربي المستقبلي والذي تفرضه الطبيعة والضرورة وليس السياسة.