تتوالى السنوات و الحديث عن تطوير التعليم العالي وحل مشكلاته لا ينقطع،بل و يتردد و يتكرر،و تتراكم الوثائق والتقاريرو الإستراتيجيات . ومع هذا، فإن الاجراءات العملية لتحقيق الاصلاحات المنشودة لا زالت في اضيق الحدود، ولم تترك أي اثر يذكر على نوعية التعليم، أو مواءمة الخريجين لسوق العمل، أو تراجع البطالة بين الشباب، أو تخفيف العبء الاقتصادي عن الطالب وعائلته. ولعل الأسباب وراء ذلك كثيرة، و يأتي في مقدمتها ذلك “التردد التقليدي لدى الإدارات الرسمية في تنفيذ برامج إصلاحية متكاملة” بكل ما تستلزم من القرارات .و لذا يحل محلها الاستغراق في العموميات،و التخوف من مصاعب التغيير، وعدم التركيز حتى على موضوع واحد لتتم معالجته والانتهاء منه. و لذا، تتراكم المشكلات و يتم تغطيتها بحلول مؤقتة أو استرضائية،أو يتم ترحيلها سنة بعد سنة. ولعل مسألة تمويل التعليم العالي تمثل واحداً من الأسباب الرئيسية الكامنة وراء “استمرار الدوران” حول إصلاح التعليم العالي دون الدخول في جوهر الإصلاح ،و بقاء الحالة على ما هي عليه بسبب التخوف من التبعات المالية لأي حل تقترحه اللجان العديدة والاستراتيجيات التي يجري وضعها بمعدل مرة كل (5) سنوات. يتضمن تمويل التعليم العالي 5 أبواب رئيسية هي الإستثمارات الرأسمالية في إنشاء الجامعات و المراكز البحثية ،و ابتعاث أعضاء هيئة التدريس، وتكاليف التشغيل للمرافق ،و الرواتب والأجور و ما يتبعها،و تكاليف المشاريع والنشاطات المختلفة. يقابل ذلك ما يدفعه الطالب من رسوم و ما تقدمه الحكومة من دعم للجامعات الرسمية. تبلغ الكلفة الاقتصادية للتعليم الجامعي في بلدنا في وضعه الحالي ما معدله 4000 دينار سنويا لكل طالب،و هي تعادل 105% من نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بينما تصل هذه الكلفة إلى أكثر من الضعف في معظم الدول الأوروبية والى (5) اضعاف في الولايات المتحدة الامريكية أي ما يقترب من 60% من نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في أوروبا و 70% في امريكا. واذا أخذنا بعين الإعتبار أن مسؤولية تعليم الابناء والبنات تتحملها العائلة لدينا مباشرة، نجد أنه في ظل ارتفاع الاسعار أصبح التعليم الجامعي يشكل عبئا ثقيلا بكل معنى الكلمة يفوق بمرات ما تتحمله العائلة في اوروبا أو امريكا. وهذا يستدعي ان تنظر الحكومة الى مسألة تمويل التعليم نظرة جادة للخروج بحلول عملية يمكن البناء عليها. آخذين بعين الاعتبار ان أي اصلاح حقيقي يحمل قيمة مضافة للتعليم العالي تكتنفه نفقات اضافية من شأنها ان ترفع الرقم الحالي من 4 إلى 6 أو 8 آلاف دينار للطالب سنويا.و هي ارقام تكاد تكون مستحيلة في ظل الظروف الإقتصادية و الإدارية السائدة. إن استمرار اعتماد التعليم العالي على ما تدفعه الحكومة أو ما يدفعه الطالب سوف يصل بالتعليم الى طريق مسدود. و مؤدى ذلك أن الدولة والمجتمع أمام بديلين: الأول: الإستمرار على الوضع الحالي ،و هذا يعني مزيدا من تراجع التعليم العالي كما وقع في بلدان عربية أخرى.و الثاني: تغيير جوهري في منظومة التمويل و الافادة من تجارب الدول في هذا الشأن. وعليه يمكن التفكير في الاطار التالي أولاً: المسارعة في “انشاء بنك التعليم “،كما هو في العديد العديد من بلدان العالم ،لتقديم قروض للطلبة يتم تسديدها بعد الالتحاق بالعمل، وتتحمل الحكومة الفوائد البسيطة المترتبة على هذه القروض حسب مصادر التمويل. وبذا يشعر الطالب بالمسؤولية من جهة ، وتزيح الدولة عبئا ثقيلا عن كاهل الاسرة من جهة أخرى. ثانياً: انشاء وقفيات وصناديق استثمار خاصة بكل جامعة وبحكم القانون، لتكون عوائد هذه الوقفيات وصناديق الاستثمار جزء من الدخل السنوي للجامعة دون ان يكون من حق الجامعة تصفية الوقفيات او الصناديق. وعلى الدولة ان تقدم المساعدة والدعم لتحقيق هذه الغاية. و هذا ما نجده لدى مختلف الجامعات في الدول المتفدمة ثالثاً: اعفاء الهبات والمنح التي يقدمها الافراد او الشركات للتعليم من الضرائب ،والتشجيع على تقديم المنح العينية أو النقدية لتكون جزء من الوقفيات والصناديق. رابعاً: تشجيع الشركات على تقديم المساعدات للتعليم العالي كجزء من مسؤوليتها المجتمعية سواء للجامعات الرسمية او الخاصة. خامساً: اعادة الاستقلال لضريبة الجامعات و إعادة صياغتها ، وعدم ادخالها في الخزينة، وانما في صندوق خاص يتم توزيع عائداته على جميع الجامعات بنسبة اعداد الطلبة فيها ، وبموجب معادلات لكل جامعة ومعايير اداء تشجيعية. سادساً: تفويض الاراضي الاميرية للجامعات جميعها، لاقامة مشاريع استثمارية دون حق التصرف في الاصول. سابعا: إنشاء عقود مشاركة بين كليات بعينها و بين شركات و مؤسسات و اتحادات تعمل بذات التخصص كما نجد ذلك على نطاق واسع في كوريا واليابان وغيرهما الكثير. أما بالنسبة للاستثمارات الخليجية فقد كثر الحديث عنها،و بالغ البعض بالتوقعات ،و ذهب الخيال إلى قرب تدفق مليارات الدولارات على الأردن و كأن السماء سوف تمطر الذهب و الفضة. والحقيقة أن الموضوع ليس بهذه الصورة الخيالية .فقدرة الدول الخليجية على منح المساعدات في ظل الظروف السائدة تتناقص يوما بعد يوم. والبديل من وجهة النظر الخليجية يتمثل في تشجيع المستثمرين على الإستثمار في الأردن ، بكل ما يعني ذلك من دخول رؤوس الأموال و حركيتها الدائمة . وعليه ،فإن الامر يتطلب الكثير من العمل والإعداد من جانبنا ،ومن بعد النظر القائم على رؤية استراتيجية واضحة. فليس المطلوب مجرد دخول اموال المستثمرين لتخرج بعد فترة وجيزة دون احداث تغيير ذي قيمة . وهنا لابد من التأكيد على النقاط التالية: اولاً ان شراء او استئجار الأصول والموجودات الثابتة من اراضي ومباني وفنادق ومصانع وجامعات و شركات وغيرها، سوف لن يضيف الى الاقتصاد الوطني شيئا. بل انه حرمان للاقتصاد من عوائد هذه المؤسسات وتبديد تاريخي للثروة الوطنية. ثانياً ان الاستثمار في الخدمات لا يحقق في هذه المرحلة اضافات جديدة، بما في ذلك بناء الجامعات والمستشفيات او شراؤها .وستبقى القيمة المضافة المتأتية عن هذه الخدمات متواضعة بسبب غياب الصناعات الوطنية التي تقوم عليها تلك الخدمات. ثالثاً ان الاستثمار المنشود هو الذي يقيم مشاريع إنتاجية جديدة وتنتج صناعات منبثقة عنها. وهذا يتطلب من دوائر الاستثمار وضع البرامج والمشاريع التي يمكن ان تحقق ذلك و خاصة في المحافظات. خامساً: لا بد من انشاء “مركز وطني للاستثمار” يتولى تأهيل الكوادر الوطنية القادرة على تسويق الاستثمارات والتعامل الاداري مع متطلباتها وتجاوز عنق الزجاجة الذي يحاصر المستثمرين في كل مكان. و أخيرا فإن مستقبل التعليم العالي مرتبط بتطوير منظومة حديثة و ديناميكية للتمويل،كما أن الإفادة من فرص الإستثمار الخليجي تعتمد كلية على ما يتوفر لدينا من رؤية واضحة ،و إرادة و عمل لبناء الثروة الوطنية والمحافظة عليها ،و تعزيز الهيكل الإقتصادي الذي تقوم عليه.