قد لا تكون هناك مبالغة إذا قلنا أن من أكثر شعوب الأرض ولعا بالحديث عن الإصلاح هم السياسيون العرب، ونحن منهم، وأبطأهم تحركا عمليا نحو الإصلاح هم أيضا العرب أنفسهم. الكثير منا يعتبر أن مجرد الحديث هو كاف. والحكومات تعتبر أن مجرد التصريحات بالعزم والنوايا و التفكير والدراسة هو كاف أيضا. ولكن المواطن يتساءل: متى تبدأ الحركة الفعلية؟ متى تتحرك البرامج؟ ومتى يبدأ التنفيذ؟ و هنا يبدأ نقاش جديد يمتد لأشهر و سنوات: ما هي أولويات الإصلاح؟ هل هو الإقتصادي ؟ أم السياسي؟ أم الاجتماعي أم التعليمي التربوي؟ أم الأمني أم القانوني؟. ويستمر النقاش والحوار والسجال، ونحن في كل يوم نصف الإصلاح، ونتغنى به وبضرورته، وبأهميته وبحتميته، وبإستراتيجيته وبأولويته، وبإلحاحه وبمبرراته، ونظل ندور في نفس الحلقة المفرغة ،بينما المواطن يزداد إحباطا وحيرة و مشقة و بؤسا لأن الحياة تتحرك حوله بأسرع مما يستطيع التعامل معها.
قبل 15 عاما، وفي خطابه الأول إلى مجلس الأمة عام 1999، أشار الملك عبدا لله الثاني إلى الإصلاح، و طالب به و كلف حكوماته بتنفيذه. فتحدث عن استقلال القضاء و سيادة القانون، و مساواة الأردنيين على قاعدة المواطنة، و إعادة هيكلة الاقتصاد والتنمية الإقتصادية ،و جذب الإستثمارات وتفعيل دور القطاع الخاص، والحد من المديونية. وكذلك تناول شح المياه ،وترشيد الإستهلاك،و إنهاء ترهل الإدارة، والتسيب والشللية، والتطاول على المال العام والفساد .و أكد على تعزيز المسيرة الديموقراطية التي لا رجعة عنها ،وتبني التعددية السياسية ،و الحريات،و تطوير التعليم والصحة وقطاع المرأة والطفولة.
هل يعقل أننا حتى الآن،و بعد 15 سنة تخللتها “الأردن أولا” و”الأجندة الوطنية” وقبل ذلك “الميثاق الوطني”، لا زلنا نغرق في التجزيء والتفصيل والتأجيل والترحيل؟ ولا ندرك أن الإصلاح عملية متكاملة؟وأن المجتمع آلة ضخمة ينبغي أن تعمل جميع أجزائها بشكل صحيح في عين الوقت والزمان؟ هل يعقل أننا لم نقرأ تجارب الشعوب التي وضعت برامج إصلاحية شاملة لمختلف القطاعات؟ وانخرطت في تنفيذها في نفس الوقت؟ هل يعقل أننا ننتظر الإصلاح السياسي الذي لا يأتي، حتى ننتقل إلى الاقتصادي الذي لا يتحرك؟ وننتظر إصلاح الصناعة حتى نبدأ بالزراعة والسياحة؟ وحتى نبدأ بالطاقة والمياه ؟ وحتى نبدأ بالبطالة؟، إنه تشويش لا يفيد شيئا، وإنه ترحيل و تأجيل باهظ الثمن إنسانيا واجتماعيا ووطنيا.
هل يتصور من يسأل عن أولويات الإصلاح، أن نفس الفريق، وذات الأشخاص، عليهم أن ينفذوا هم وحدهم برامج الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي والزراعي والسياحي إلى آخر القائمة ؟ هل يتصورون أن الدولة بكاملها ستتوجه نحو قطاع معين ويتوقف العمل في القطاعات الأخرى؟ أم أن الدولة الجادة في الإصلاح تضع خطة شاملة وتبوبها إلى قطاعات وتعين الخبراء والمختصين ، ويبدأ التنفيذ في كل القطاعات كل في اختصاصه؟ هل هناك مشكلة في أن تصدر الحكومة، بعد المراجعة والتحديث، مجموعة من القوانين والتعليمات والقرارات المنبثقة عن الخطط التي تم إعدادها في كل اتجاه ؟ هل سينتظر عشرات الآلاف من المتعطلين عن العمل، وتنتظر المحافظات ومناطق الفقر والمعاناة وانفلات الأمن وغياب سيادة القانون وانهيار الإدارة العامة ،كما يقول رئيس مجلس الأعيان،حتى يصدر قانون انتخاب جديد؟ أو قانون أحزاب متطور؟ أو حتى يتم تشكيل كتل نيابية متماسكة ومستقرة تحل محل الأحزاب؟ إن جميع دول العالم التي واجهت أزمات معقدة وضعت لنفسها برنامجاً إصلاحيا شاملا وفق فترات زمنية محددة و قرارات جريئة وانخرط الجميع في التنفيذ ، كل حسب اختصاصه،و حسب إمكاناته و دوره.
إن لدى الحكومة عشرات الخطط والبرامج في كل القطاعات، ولدى الدولة الأردنية مئات الخبراء والعلماء في التخصصات المختلفة. ما الذي يمنع تطوير خطة وطنية خلال شهرين أو ثلاثة أشهر بناء على ما سبق آن تمت دراسته، وتعلن هذه الخطة ليتم إقرارها مجتمعيا ومن خلال مجلس الأمة ، ومنظمات المجتمع المدني ثم تبدأ التنفيذ؟
و أخيرا، فإن الإصلاح الشامل الناجز الجاد هو المطلوب، وهو المجدي فقط. وهو الذي يمكن أن يخرج البلاد من عنق الزجاجة. و الإصلاح لا يصنعه شخص بمفرده، ولا حكومة بمفردها بعيدة عن المشاركة من الخبراء ومن منظمات المجتمع المدني والعاملين في القطاع ذاته، ولا يتم في يوم وليلة، وإنما يستغرق سنوات وسنوات . ولكن العبرة في البداية الجادة التي من شأنها أن تطمئن المواطن و تكتسب ثقته. الإصلاح بحاجة إلى إرادة تنفيذ، واستعداد للمواجهة، وتحمل للنتائج، وقدرة على أشراك المجتمع في المساهمة الفاعلة، فذلك وحده الذي يصنع المستقبل.