الوزير الفرنسي الجديد، رتشارد فيراند، وزير الإدارة المحلية أو بصورة أدق وزير “تماسك المحافظات الفرنسية” ،يطالبه الرأي العام بالإستقالة لإتهامه بالفساد والقرباوية قبل توليه المسؤولية الوزارية . وهذا الفساد ليس بالملايين ولا بالآلاف، بل مبلغ 1250 يورو شهرياً أعطيت له كخصم غير مبرر عند استئجاره مكتباً ، كما أنه عين ابنه مستشاراً له وهو نائب في البرلمان ،واستفادت زوجته السابقة من نفوذه كنائب في البرلمان .
لم يغفر الرأي العام الفرنسي هذه التجاوزات، و لم يحاول أحد إخفاءها ،لأن العمل السياسي لديهم يشترط النزاهة و الشفافية وعدم تضارب المصالح. ولأن فيراند لم يرتكب مخالفة قانونية صريحة، فإن رئيس الجمهورية متمسك به، ولكنه طلب من الحكومة المباشرة بإعداد مدونة السلوك الأخلاقية للعمل السياسي أو ما أطلقوا عليه ” أخلاقيات الحياة السياسية “، لكي يقرها البرلمان وتصبح بقوة القانون . وهذه المدونة سوق تغطي المساحات الرمادية بين القانون والأخلاق في بلد هي نموذج لسيادة القانون والالتزام بالقيم الأخلاقية، كما قال رفاعة الطهطاوي قبل 160 سنة. وناشد الرئيس الفرنسي الإعلام أن لا يكون قاضياً وحاكماً وانما مبيناً للحقيقة فقط ، خاصة وأن الرئاسة أخذت المسألة مأخذاً جاداً من خلال السير في مدونة السلوك الأخلاقية ،انطلاقاً من ما التزم به الرئيس في حملته الإنتخابية و هو مبدأ: ” القطيعة مع الممارسات السياسية السابقة المشبوهة، وبدء مرحلة جديدة تقوم على النزاهة والشفافية الكاملة “.
إن الحالة الفرنسية هذه تثير في نفس المواطن العربي الكثير من التساؤلات المؤلمة . أولاً : لماذا هذا التشدد في النزاهة والشفافية ورفض “التكسب والتمنفع” في البلاد الديمقراطية حتى قبل تولي المنصب القيادي أوالوزاري ،بينما هي لدينا مجرد كلام ودعوات بنوايا حسنة، ولكن دون ضوابط اجرائية حقيقية يدعمها التزام اخلاقي داخلي ؟ ثانياً : حتى المبالغ الزهيدة (1250) يورو شهرياً وتعادل أقل من 10% من متوسط دخل الفرد في فرنسا تقوم لها الدنيا ولا تقعد هناك، بينما المواطن العربي يشاهد تسرب الأموال العامة بالملايين، بما في ذلك مكافآت غير مبررة بعشرات الآلاف من الدنانير تصل أضعاف أضعاف متوسط دخل الفرد في المنطقة العربية ًثالثاً : لماذا تتحرك النيابة العامة في فرنسا تلقائياً للتحقيق عند انتشار خبر بالفساد في الإعلام ،أو اتهامات لشخصية عامة بمخالفة القانون أو العرف السلوكي الذي يمس مصالح المواطنين، بينما تغيب هذه الحركة في بلاد العروبة حتى لو كانت الشواهد قوية ومؤكدة ؟رابعاً : لماذا على الشخصية العامة والموظف العام والسياسي والبرلماني في الدول المتقدمة أن يكون صاحب تاريخ يتسم بالأخلاق والنزاهة على مدى مسيرته الحياتية وقبل توليه المنصب الرسمي، ولذلك يحاسب عن كل عمل كان قد ارتكبه في الماضي، بينما نجد ذلك غائباً في المنطقة العربية سواء قبل المنصب أوأثناءه أو بعده ؟ خامساً : حينما ياتي رئيس جمهورية أو رئيس وزراء جديد يلتزم هناك بما وعد الناس به قبل وصوله إلى المنصب، وينقطع عن الماضي ليبدأ مرحلة جديدة ،وهذا هو جوهر الإصلاح. وإذا وجد تعارضا بين ما التزم به وبين ما يريده الناس، لا يتردد في المغادرة والرحيل ،كما فعل ديغول و كاميرون و غيرهما، بينما في المنطقة العربية لا هم ولا شاغل الا البقاء بأي ثمن حتى لو كان ذلك مستقبل الدولة بأسرها، كما نرى في سوريا و اليمن و ليبيا و غيرها.
بمعنى صريح و مباشر ، أن الإصلاح في الدول الديمقراطية ليس الدوران حول الماضي الذي قد يصعب تقصي تفاصيله وحيثياته، ولكن الإصلاح هو البدء بمسار جديد يلتزم بتنفيذ القانون على الجميع ، ولا يترك الرأي العام نهبا للإشاعات و الأقاويل ليحول دون وقوع فساد جديد، ويضع الضوابط القانونية والأخلاقية لذلك. حتى يصبح الإلتزام و النزاهة و الشفافية و المساءلة جزء من ثقافة المجتمع وعقلية الإدارة.
و رغم أن مستويات النزاهة لدى الدول الديموقراطية أفضل بكثير من ما هي في المنطقة العربية، فهي في الدنمارك 89 من مئة و في فرنسا 69 و الإمارات العربية المتحدة 64 وفي الأردن 48 و في مصر 34، إلا ان “هناك” تشدد شعبي و رسمي و إعلامي في هذا الجانب ،لماذا ؟ لماذا التشدد هناك في مسالة النزاهة ومواجهة الفساد؟ لماذ يحاسب المسؤول هناك حتى لو كان رئيسا للجمهورية، كما حصل أكثر من مرة في كوريا ،على كل قرار وكل دولار لا يستحقه ،بينما في البلاد العربية تضيع فيها آلاف القرارات وملايين الدولارات على حد سواء؟ لماذا ؟
الإجابة ببساطة هي :أن النزاهة و الشفافية بأبعادها المتعددة المالية والإدارية والمهنية والمعلوماتية و السلوكية هي ركن أساسي في بناء الدولة الحديثة. وأن الفساد و الحاكمية السيئة و “التعتيم” تنعكس شرورها على كل شيء في الدولة : على الإقتصاد وعلى السياسة وعلى التعليم وعلى الفكر والثقافة وعلى التقدم العلمي والتكنولوجي و أهم من كل شيء على المواطن و الوطنية. أن المسؤول لديهم هو القدوة وهو النموذج للمواطن العادي وللشباب بشكل خاص. فأي قيم وأي وطنية سيحملها الشباب ويؤمنون بها حين يرون الفساد والمحسوبية والواسطة والقرباوية في كل مكان و على كل مستوى؟ واي اجتهاد وإبداع يمكن أن يكون هدفاً لهم إذا اكتشفوا أن الواسطة أقوى من كل ذلك ؟ واي نجاح اقتصادي سيتحقق إذا كان الفساد منتشراً ليصل الصناعة والزراعة والمواصفات والطب والمحاماة و التعليم و السياحة بل وكل شيء؟ انهم حريصون على مستقبل بلادهم ، ويدركون جيداً أن المستقبل المزدهر والفساد لا يجتمعان . وحقيقة الأمر أن مسالة غياب النزاهة وانتشار الفساد هي أحد المداخل الكبرى التي ينفذ فيها الفكر المتطرف إلى عقول ونفوس الشباب. لأن الحركات المتطرفة والارهابية تبدأ دعواها بمقولة فساد المجتمع و فساد الحكم.
ورغم أن الأقطار العربية أكثر بلاد العالم حديثاً وكلاماً وخطابة واعلاماً عن الأخلاق والنزاهة والأمانة والصدق، الا أنها تقع مع مجموعة الدول الأقرب إلى الفساد باستثناء الإمارات العربية . لأن الكلام لا يقنع أحداً، والخطب والمواعظ والنصائح لا تغير سلوك أحد، إذا لم تكن الدولة تطبق الأخلاق والنزاهة و الشفافية في جميع أعمالها وفي جميع حلقاتها الإدارية،وإذا لم يكن المسؤول فيها محاسبا عن كامل مسيرته وبكل تفاصيلها وإذا لم يمنع نفسه ويمنعه القانون ويمنعه العرف الأخلاقي من أن يأخذ دولاراً واحد لا يستحقه .وأن أي استحقاق له يجب أن يكون معلناً ومبرراً قانونياً وأدائياً وأخلاقياً، وخاصة حين يكون جزء كبير من القوى العاملة يعمل في الجهاز الحكومي. هكذا تبنى الدول، وهكذا تكتسب قوتها الداخلية ، ومنعتها أمام الإختراقات الخارجية، وتتعزز مشاعر الوطنية لدى مواطنيها .