1 – التغيرات المناخية
تتوالى نتائج التغيرات المناخية وتبعاتها البيئية والاقتصادية والمائية والغذائية على مختلف بلدان العالم بشكل متسارع، وتبذل مختلف الدول جهودا متفاوتة للإبطاء من هذه التغيرات تمهيداً لايقافها. غير أن نصيب الأردن من هذه التغيرات يتمحور حول المياه والحرارة والجفاف والأمن الغذائي. ويتجلى ذلك في تراجع الهطل المطري سنة بعد أخرى تقريباً، وبالتالي المعاناة من شح المياه، وارتفاع درجات الحرارة، والتي ارتفعت بمعدل 0.2 درجة مئوية لكل 10 سنوات خلال نصف القرن الماضي.
ونتج عن ذلك تدهور نوعيات التربة، وزيادة التصحر، وتقلص البقعة الزراعية، وشدة موجات الحر، وتصاعد الهجرة من الريف إلى المدينة، إضافة إلى موجات من الأمراض النباتية والحيوانية والانسانية التي من المحتمل ان تتطور بسرعة إذا لم يوضع حد للتغيرات المناخية. لقد تراجع معدل الأيام الماطرة لدينا من 55 يوما قبل 35 عاما، لتصبح في حدود 30 يوما في السنة وبكميات تتناقص تدريجياً. إضافة إلى أن متوسط الاستفادة من الأمطار لا يتعدى 10 % من الأمطار المتساقطة. صحيح أن وزارة المياه تبذل أقصى جهود ممكنة في إدارة الشأن المائي، إلا ان الإشكال الأكبر لدينا هو في ضآلة الكميات المتاحة من المياه، أو ضآلة الثروة المائية، خاصة بعد ان حولت اسرائيل عام 1964 كامل مياه نهر الاردن من خلال رفع مياه النهر من مستوى 108 أمتار تحت سطح البحر إلى238 مترا فوق سطح البحر، وإنشاء قناة تبدأ قريبا من نقطة الخروج من طبريا الى جنوب النقب. هذا في حين لا يصل من مياه اليرموك إلا كميات ضئيلة بسبب السدود البالغ عددها 43 سدا التي أقامتها سورية على النهر قبل دخوله الأراضي الأردنية.
2 – مياه المستقبل
ومهما تعددت مصادر المياه فإن العالم يقف أمام حالة، ربما غير مسبوقة في التاريخ، تتمثل في ارتفاع مستويات البحار بسبب ذوبان الكتل الجليدية في شمال وجنوب الكرة الارضية، وتضّاول كميات المياه الطبيعية العذبة المتاحة، الأمر الذي سيجعل مزيدا من الدول، وخاصة في أفريقيا والشرق الأوسط، تعاني مع تزايد عدد السكان، أكثر فأكثر من شح المياه وبشكل متسارع.
وهذا سوف يغير من تصنيف المياه العذبة من ثروة طبيعية متاحة بسهولة، إلى مادة أو ثروة يجب تصنيعها، أي الدخول في سلسلة من العمليات الصناعية للحصول عليها كمنتج نهائي الأمر الذي يدفع بالمياه لتكون مستقبلا صناعة قائمة بذاتها، كما هي المعادن والمواد الاصطناعية بل والكهرباء.
ومن المتوقع ان تصبح صناعة توليد المياه من المصادر المختلفة جزءا من البنية التحتية للدولة. وكلما كانت المياه أكثر ندرة كما هو الحال لدينا فإن صناعة المياه تغدو أكثر إلحاحا واستعجالاً، ويصبح التمكن الوطني من التكنولوجيات المتعددة لإنتاج المياه، واحدة من ضرورات الأمن الوطني بالمفهوم الاقتصادي والاجتماعي والغذائي.
وحاليا يعمل الأردن على إنشاء محطة تحلية أي تصنيع الماء الصالح للشرب، بكلفة 2 مليار دينار واستطاعة 350 مليون متر مكعب سنويا، وضخ هذه المياه المحلاة في الناقل الوطني للمياه لتكون المنظومة عاملةً في عام 2028. وسوف تتطلب الزيادة السكانية الطبيعية والتوسع في الصناعة والزراعة والسياحة مزيداً من المياه خلال هذه الفترة لنكتشف أن المشكلة المائية لم تتغير بشكل جذري، إلا إذا تداركنا الأمر وبدأنا من اليوم الاستعداد لانشاء قطاع الصناعات المائية. ولأن المياه ربما اكثر حرجاً من الكهرباء فإن الاستعداد للصناعات المائية ينبغي ان ينطلق بعلم واعتماد ذاتي ورؤية مستقبلية مسؤولة، باتجاهين الأول إضافة مصادر (تصنيعية) جديدة، والثاني رفع كفاءة الاستخدام وخاصة في الزراعة التي تستهلك 55 % من مجمل المياه. أن كثيراً من متطلبات تصنيع المياه ينبغي أن يتم إنشاؤها والتمكن منها محلياً، وليس الاطمئنان إلى إمكانية استيرادها.
3 – صناعة المياه
إن وضع المياه اليوم يشبه وضع النفط قبل مائة عام حين كان برميل النفط أقل من ربع دولار، واليوم يتأرجح حول المائة دولار. ومن المتوقع أن تعمد الدول التي تبيع الماء بأسعار رخيصة اليوم الى رفع هذه الاسعار مستقبلاً وسيكون الماء واحداً من الأسلحة المستقبلية ضد الدول المعتمدة على الآخرين، وخاصة في المنطقة العربية. إن صناعة المياه ينبغي أن لا تلقى على كاهل وزارة المياه والري منفردة وإنما هي مشروع وطني بامتياز بين شركاء خمسة هم: الحكومة، والقطاع الخاص، والجامعات، والاتحادات النوعية، والمواطن.
وعلى الإدارة التخلص من ثقافة السلعة الجاهزة فتطمئن الى امكانية شراء الماء من الآخرين. وبالتالي لا بد من المبادرة بهذا الاتجاه وأن تخصص الحكومة في الموازنة الجديدة لعام 2023 والبالغة 11400 مليون دينار ما لا يقل عن 250 مليون دينار أي 2.2 % من الموازنة للبدء في مشاريع تصنيع المياه وإنشاء مراكز التطوير التكنولوجي اللازمة.
ودعم البحث والتطوير. وكما يؤكد الخبراء في كل مكان انه ليس هناك من حل سحري للمياه، ولا حل من خلال مشروع واحد، وإنما هي الحلول التراكمية ابتداء من الحصاد المائي في المنازل وانتهاء بمحطات تحلية المياه البحر او المياه المسوس وما بينهما من إدارة، واعادة تدوير، وصيانة، وانشاء السدود والحفائر، والتوسع في السدود الترابية، وتخفيض كلفة الحفر العميق للطبقات الحاملة للمياه، والتوسع في الأصناف والسلالات الزراعية النباتية والحيوانية الاقل استهلاكاً للمياه والأكثر تحملاً لدرجات الحرارة المرتفعة والجفاف. ولعل تجارب الصين والهند وأستراليا بل وقبرص في هذا المجال تساعد على المباشرة في برنامج وطني.
ففي الصين نجد أن عدد السدود بواقع 57 سداً لكل مليون من السكان في حين يرتفع العدد في قبرص ليصل 86 سداً لكل مليون من السكان بينما نحن لدينا 1.2 سد لكل مليون من السكان.. على الحكومة أن تفكر كم سيكون نصيب الفرد من المياه عام 2030؟ وكيف ستؤثر ندرة المياه على كلفة الإنتاج سواء في الزراعة أو الصناعة أو السياحة أو غيرها من النشاطات الاقتصادية والاجتماعية.
4 – الجامعات الوطنية
وخلافا لتوليد الكهرباء في المحطات التقليدية، فإن صناعة المياه ستعتمد بدرجة كبيرة على الموقع من حيث الجغرافيا والجيولوجيا والطقس والبنية التحتية والنشاط الاقتصادي وتوفر الطاقة المتجددة، وغير ذلك الكثير. كذلك فإن أسعار بيع الكهرباء تتسم بالمرونة الواسعة نسبيا في حين أن أسعار المياه حرجة ويجب أن تكون في الحدود الدنيا. وهذا يتطلب تأهيل المهندسين والفنيين والتكنولوجين المتخصصين في صناعة المياه، وعدم الاعتماد على الحلول الجاهزة او الخبراء الاجانب، فحينئذ ستكون الكلفة غير مقبولة ولا محتملة لدى المواطن. سواء تعلق الأمر بتحلية المياه أو توليدها من الهواء، أو صيانة السدود او انشائها او الاستمطار أو تكثيف الضباب أو الحفر العميق أو الزراعة المائية أو إعادة التدوير أو تطوير سلالات زراعية جديدة أو تصميم منظومات جديدة للاستهلاكات المنزلية والصناعية والزراعية، وغير ذلك. ومن هنا فإن دور الجامعات على جانب كبير من الأهمية نظراً لأن الكثير من المسائل المتعلقة بالمياه بحاجة الى دراسات وأبحاث سواء في الجانب الاقتصادي والمعرفي أو الجانب التكنولوجي بل والإبداعي لتطوير الأنظمة والمواد والتكنولوجيات الملائمة. ومن الضروري أن يتم توزيع المهام البحثية والتكنولوجية على الجامعات المختلفة ذات القدرة على الإنجاز، كما أنه من الضروري تحديد المسارات الأكاديمية والتدريبية والهندسية التي ينبغي ان تسرع الجامعات والمعاهد في تدريسها واستقبال الطلبة لهذه الغاية، حتى يتم بناء قاعدة معرفية صلبة يمكن الاعتماد عليها. إن للجامعات ومراكز البحث والتطوير ومعاهد التدريب التكنولوجي الدور الأكبر في تأهيل وتمكين الكوادر الهندسية والعلمية والفنية في هذا المجال. ولا يجوز أن تقف متفرجة وكأن الأمر لا يعنيها. بل على كل جامعة رسمية أو أهلية وكل مركز تدريب أن يركز على جزء من التصنيع لإعداد الكوادر المؤهلة للعمل في هذا الجزء في الوقت المناسب.
فعلى سبيل المثال وجه الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون جامعات جزائرية رسميا للبدء بتدريس هندسة تحلية المياه وهندسة اعادة التدوير. وبذا أصبح الموضوع توجه دولة وليس مجرد خيار لشخص أو لآخر. كما أن كل جامعة تأخذ جانباً من الصناعات المائية عليها التشبيك مع الصناعات ذات العلاقة في القطاع الخاص حتى يمكن الخروج بنتائج حقيقية تساعد على حل الأزمة. إن المياه سترسم خريطة المستقبل لكثير من الدول، وبلدنا لديه رأس المال البشري والطموح. فهل تبادر الإدارة؟