على غرار السنوات السابقة قدمت الحكومة مشروع الموازنة لعام 2018 الى مجلس النواب لدراستها ومن ثم إصدارها في قانون . الأرقام كبيرة ومتصاعدة سنة عن سنة خاصة فيما يتعلق بالنفقات الجارية والتي وصلت 7886 مليون دينار أي ما يقرب من 26.7% من الناتج المحلي الإجمالي، وبمعدل 1000 دينار لكل فرد أو 788 دينار إذا اعتبرنا عدد السكان 10 مليون نسمة. و بأخذ كامل النفقات الحكومية فإن متوسطها 1000 دينار للفرد وهي أقل من نصف المتوسط العالمي .
إن مشروع الموازنة للعام 2018 لا يختلف عن السنوات السابقة الا في تنامي الأرقام دون تغيرات نوعية في التخصيصات أو الاتجاهات. و هنا لا بد من الإشارة إلى عدد من النقاط و على النحو التالي .أولا أن النفقات الراسمالية ،والتي خصص لها 1153 مليون دينار، موجهة كلها للبنية التحتية و الخدمات من طرق ومدارس و مستشفيات وسواها. وعلى أهميتها ،إلا أنها لن تسهم في التنمية الاقتصادية الا في أدنى الحدود. ثانيا إن معدل نمو الاقتصاد لعام 2018 من المتوقع أن يكون 2.5%، وهذا أقل بكثير من أن يولد ما يكفي من فرص العمل كما قال وزير المالية ، بل وأقل من أن يحافظ على متوسط دخل الفرد. ثالثا أن النمو المتواضع يعني ببساطة أن البطالة سوف تتزايد لتصل الى ربما 20% و بين الشباب قد تصل 35% و حجم العاطلين عن العمل سيقترب من 400 ألف ،ومساحة الفقر ستتسع لتشمل شرائح إضافية من المجتمع .وهذه كلها مسألة غاية في الخطورة والحساسية. رابعا لقد كانت هناك آمال بأن يحمل مشروع الموازنة تحركات اقتصادية تحمل إضافات إلى الهيكل الإقتصادي الوطني تساعد على زيادة معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي ليتخطى 4% على الأقل، حتى تتم المحافظة على استقرار الحالة الإجتماعية ، و تخفيف مشاعر الإحباط لدى الشباب .خامسا كان من المفروض أن يتجه جزء من النفقات الرأسمالية نحو مشاريع انتاجية تولد فرص عمل جديدة و دائمة وخاصة في المحافظات، إما من خلال تمويل حكومي تجسيري، وإما من خلال الشراكة مع القطاع الخاص والأهلي. ولكن ذلك لم يتحقق.سادسا أن “تثبيت” الدين عند نسبة 93.6% من الناتج المحلي الاجمالي يعني ببساطة أن المديونية هي في تزايد مستمر .كما أن التبشير بأنها ستأخذ بالتناقص إبتداء من عام 2019 لا يستند إلى إرضية إقتصادية ثابتة. سابعا إن إرجاع ارتفاع المديونية سنة بعد سنة إلى ارتفاع اسعار النفط و انقطاع الغاز المصري أمر لم يعد مقبولا، في الوقت الذي يعمل فيه ميناء الغاز السائل بنجاح، و يجري توليد أكثر من 85% من الكهرباء باستعمال الغاز المستقر السعر، و ليس النفط. ثامنا لم تتعرض الموازنة لفرض ضرائب على “تجارة العقار لغير الأردنيين” و لا لضرائب تفرض على عمليات البيع و الشراء للأسهم في سوق الأوراق المالية اسوة بما هو معمول به في معظم دول العالم .
ومن حق المواطن أن يتساءل : إذا كانت هذه هي الخطة المالية للسنة القادمة فأين الخطة الاقتصادية لذات السنة ؟وأين المشاريع التي يمكن أن تخفف من البطالة والفقر، وتحدث تغييراً في دخل الفرد الى الأحسن، و توقف المزيد من التآكل في الطبقة الوسطى ؟ و كيف ستتغير أحوال المحافظات و تتحقق فيها التنمية التي تكاد تصبح شعارا بدون مضمون؟. و كيف سيتم تخفيض العجز التجاري إذا كانت المستوردات في تزايد لتشمل كل شيء :السلع و الخدمات و العمالة و الغذاء ؟،في حين تعاني الصناعات و الزراعة و الخدمات و الإستثمارات المحلية كل مشقة و تراجع؟ أين بنك للإنماء الصناعي، و اين الصناعات الجديدة، و اين إحلال الصناعات المحلية محل المستوردات ؟و أين “التوسع السريع” في الطاقة الشمسية للمنازل و المدارس والبيوت في القرى و البوادي و الأرياف حتى تتراجع فاتورة النفط الوهمية للكهرباء؟ و أين شركات النقل العام الحديث و المنظم و القطار الخفيف حتى نخفض من فاتورة المشتقات النفطية و التي تزيد عن 43% من مجمل فاتورة الطاقة ؟
إن زيادة الضرائب ورفع الأسعار ليست حلا حقيقيا دائما لأي مشكلة مالية أو إقتصادية،بل انها تضيف تعقيدات إجتماعية و إنسانية خطيرة . والهروب من المواجهة الاقتصادية هوطريق مسدود. والمطلوب دائما أن لا يقرأ مشروع الموازنة قراءة مالية بحتة ،وانما يقرأ في جوانبه الاقتصادية والاجتماعية . ذلك أن الرؤية الاقتصادية لازالت غائبة أمام المواطن و الباحث و القوى السياسية. وفي نفس الوقت تتحدث الحكومة عن مشاريع كبيرة ليس لها جدوى إقتصادية حقيقية مثل “المدينة الجديدة” أو “عمان الجديدة” والمحطات النووية، والشراكة مع اسرائيل في الغاز و ناقل البحرين.
مرة ثانية إن الحكومات ” الفردانية” التي لا تنبثق عن أحزاب تحدد لها رؤيتها المستقبلية وترسم برامجها الاقتصادية لا تستطيع هذه الحكومات أن تتناول الموضوع الاقتصاي الا من أطرفه البعيدة فقط. الدولة الأردنية بحاجة الى اقتصاد اجتماعي تتشارك فيه جميع فئات المجتمع بمدخراتها المتواضعة لتمويل مشاريع انتاجية جديدة باتجاه تصنيع الاقتصاد الوطني. والدولة بحاجة الى مساهمة الشركات الكبرى في إنشاء مشاريع جديدة تكميلية في المحافظات وبحاجة الى أن تعطي الحكومة الاهتمام الحقيقي و الشراكة الفاعلة للمستثمر الوطني القديم منه والجديد على حد سواء.
هل يمكن للحكومة أن تدعو الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني المتخصصة للتوافق على برنامج اقتصادي خلال 3 أشهر وتقديمه للحكومة لكي تتبناه وتعمل وفق مفرداته؟ مهما تبدو الفكرة غير مألوفة، الاانها قد تكون بداية للخروج من الأزمة ،وانفراج في آفاق المستقبل وبداية لأن تنشأ الخطط من قواعد جماهيرية تعطي الحكومة القوة والجرأة في التنفيذ .وتقوم تلك الأحزاب والمنظمات بالدفاع عن برنامج الحكومة الاقتصادي ؟ إن ذلك لا يمس هيبة الدولة ولا ينتقص من مكانة الحكومة بل يعطيها فرصة للعمل بثقة أكبر.