يجري الحديث عن مواجهة التطرف في المحور الفكري و العقائدي منذ شهور. و يمكن أن يمتد ذلك شهورا أخرى من خلال المؤتمرات و المقالات و اللقاءات و غيرها. ولكن ذلك الحديث الإرشادي أو الوعظي فقط لن يحدث التغيير المنشود. بل المطلوب الدخول في الإجراءات العملية التي تؤدي إلى تغيير الحالة الذهنية على نطاق واسع. ولعل أول إجراء يمكن اتخاذه يتمثل في تطوير المناهج الدراسية وتحديثها. فمنذ أوائل التسعينيات لم يقع تغيير جوهري في نوعية وكفاءة المنتج النهائي وهو الطالب. ولا زالت الملاحظات تتزايد حول ضعف التعليم وتراجع قدرات الخريجين. ذلك أن التطوير غالباً ما كان يتناول الشكل والهندسة الداخلية دون التعمق في متطلبات التغيير . وبانفجار الربيع العربي وانبثاق حركات التطرف والإرهاب تكشف للجميع أن الشباب لم يعد الإعداد الكافي لمواجهة هذه المرحلة، و أن هناك الكثير من القضايا والمسائل الفكرية والثقافية والعقائدية المتمرسة في الكتب المقررة والمناهج الظاهرة والخفية والتي تحمل في ثناياها سكوتا آو قبولا أو تشجيعا لتوجهات يمكن أن تستغل لغايات التطرف.كما أن هناك «مواد غائبة» تعمل على تحسين الحالة الذهنية والنفسية للنشء الجديد، ولا بد من عودتها. وفوق كل ذلك، لا بد من إعداد المعلم والأستاذ في المدرسة و الجامعة ليكون شريكا فاعلا في التغيير عن قناعة و ثقة و تدريب.
إن الفرق بين التطرف والاعتدال أن التطرف يقوم على اخذ المقولات الجاهزة و الإعتماد على النقل، و بالتالي إلغاء دور العقل في الحكم على الأشياء. في حين أن الاعتدال يرتكز أساسا إلى تحكيم العقل والعلم والمنطق، والتصرف على ما ينتجه ذلك . وفي حين يقوم التطرف على الكراهية والغلظة والتوحش المنبثق عن نفسية حاقدة ومعقدة نجد أن الاعتدال وقبول التنوع يتطلب نفسية منفتحة، تتعامل مع الاختلاف باعتباره مكونا ومكملا وجزء أصيلا، وليس ضدا. وفي حين يقوم الإرهاب على القحط النفسي والعقلي والحقد على الآخر، فإن حب الحياة و تقديرها والاستمتاع بخيراتها يقوم على الانطلاق والتجديد وفتح آفاق المستقبل.
فهل تتضمن المناهج في المدارس و المعاهد والجامعات ما يحقق ذلك؟ إن الاعتدال يتطلب عقلا متوازنا، قادرا على التفكير والتحليل و حل المشكلات حتى يمكن التمييز بين الأشياء. وهذا احد الجوانب الرئيسية للفلسفة. فهي التي تدعو إلى إعمال الفكر والنقد والتساؤل، وهي التي يمكن من خلالها تأهيل النشء في وقت مبكر للتدرب على التعامل مع متغيرات الحياة من منطلق العقل. وحتى عام 1978 كانت مادة «الفلسفة والمنطق» يتم تدريسها في الصفوف الثانوية وفي الجامعات. وقد ألغيت هذه المادة بضغوط من بعض الجماعات، وتوهم بعض من المسئولين آنذاك أن الفلسفة تؤدي إلى الكفر والإلحاد. .
آن الأوان لمادة الفلسفة أن تعود بقوة إلى المدارس والجامعات و مثل هذا التعديل في المناهج يمكن تنفيذه بسهولة.
ومن جانب آخر، فان البشاعة التي يمارسها ويولدها التطرف، تتطلب تحصين النفوس من الداخل وصقلها وتهذيبها، وزرع قيم الجمال فيها حتى ترى الوجود جميلا، وترى في الحياة موضوعا و رسالة خير و محبة للمحافظة عليها لا لتدميرها. وليس هناك طريقة أنجع لتحقيق ذلك من الفنون بأنواعها. فهي تنشيط للدماغ،و غذاء للنفس وإخماد للكراهية والمدخل إلى قبول كل شيء مختلف، سواء كان باللون أو الشكل أو الصوت أو الملمس أو المضمون. و بتأثير من البعض، والتوارث التاريخي البيئي، راح النظر إلى الفنون يتجه نحو الاستخفاف بها، بل واعتبرها البعض في مجلس التربية والتعليم مدخلا للانحلال. وهكذا تم إهمال الفنون في المناهج كمدخل رئيسي للتهذيب والتربية، وكأداة لتحسين التحصيل العلمي للطلبة. فهي ليست موجودة في الجامعات، وفي المدارس هي حصة واحدة يتسابق للإستيلاء عليها معلمو المواد الأخرى. وتستسلم إدارة المدرسة لذلك باعتبار الفنون مادة غير ذات أهمية.
ومن جهة ثالثة فإن العنف والخشونة في المجتمع ومن ثم القتل و الارهاب تتأتى نتيجة للشعور بالقحط والعدم. و حقيقة الأمر،إن التطرف والإرهاب، وقتل الأبرياء، وتدمير الحضارة ،والخروج على الدولة والقانون والمجتمع، تحت تأثير نفسيات مريضة قاحلة،و مقولات وهمية لهو اشد ضررا من أي شيء آخر. وليس هناك من سبيل للتغلب على هذه الحالة أفضل من تأهيل النشء الجديد على الثقة بالذات من خلال الإبداع والابتكار و الإكتشاف ، و في كل اتجاه و على كل مستوى. ولعل النشاطات اللا منهجية ورحلات الاستكشاف هي الأفضل. وفي خلاف ذلك، فإن حالة الجفاف المسيطرة على حياة الشباب يجعلهم عرضة للانجرار نحو التطرف والعنف. وقد آن لهذه الحالة أن تنتهي .
كيف يمكن للعقول و النفوس أن تعمل بتوازن وحكمة و وطنية و حب للحياة، فلا ينساق الشباب وراء عبارة أو مقولة إرهابية تطرفية لا يقبلها عقل ومنطق، إذا هي لن تتاح لها الفرص للتدرب على كل ذلك ؟ وكيف يمتنع عن تدمير النفس الإنسانية والمنجزات البشرية الجميلة و التراث الحضاري من لم يعرف الجمال في صغره ولم يجرب التنوع من خلال تذوق الفنون والتدرب عليها؟ وكيف ينبذ العنف والغلظة من لم يتذوق الفنون ولم يكتشف جمال الطبيعة؟ ولم يتشارك مع رفاقه في عمل جميل ممتع؟ وكيف يتغلب على القحط النفسي والذهني من لا يتدرب على الإبداع والابتكار فيصنع شيئاً جديداً ومختلفاً فيرى الحياة أمامه مشرقة و جميلة ؟ أما المقولات التي قد يرددها البعض القليل بأن الفلسفة توصل إلى الكفر والفن يوصل إلى الخلاعة والمجون، و الإبداع يوصل إلى الخروج على التقاليد ، فقد آن لها أن تتوارى من الكتب والمناهج الظاهرة والخفية وان لا تعود أبدا إلى عقل المجتمع.
وهذا يتطلب أن تسارع وزارة التربية والتعليم وتسارع المعاهد و الجامعات إلى أولا ألتشارك مع الهيئة التدريسية في مثل هذه الرؤى و التطلعات و الممارسات. و ثانيا إدخال (3) مواد رئيسية في المنهاج في جوانبها النظرية والتطبيقية و هي: «الفلسفة والمنطق» و»الفنون بأنواعها» و»مهارات الإبداع و الابتكار»،و في جميع التخصصات. هذا إضافة إلى التوسع في الرياضة و الرحلات الاستكشافية»،و بمعدل حصتين أسبوعيا على الأقل. وان يعتبر النجاح في هذه المواد شرطا من شروط النجاح العام والتخرج. و على الوزارات و خاصة الثقافة والإعلام و المؤسسات الشبابية والمراكز الثقافية أن تسهم بسخاء في هذه الجهود. و على الشركات و المؤسسات من خلال المسؤولية المجتمعية أن يكون لها نصيب ملحوظ في تمويل هذه الجهود.
إن تغيير الحالة السائدة و تجفيف البيئة الحاضنة للتطرف ،والعمل على المحور الناعم لمحاربة الإرهاب تتطلب وضع البدائل العملية لملء الفراغ الذهني والعاطفي والجسماني في وقت مبكر. و لعل إدخال هذه المواد هو من أسهل الإجراءات، و أقلها خلافية. وإذاك سيكون للمجتمع و للشباب خصوصا مستقبل أفضل.