إضافة إلى التركيز على صحة المواطنين وسلامتهم بالدرجة الأولى، تناول اللقاء المتميز لجلالة الملك عبدالله الثاني مع وكالة الأنباء الأردنية، بمناسبة عيد ميلاد جلالته والمئوية الثانية للمملكة، عدداً من النقاط المهمة التي يتطلع إليها الأردنيون وتقوم عليها الدولة الحديثة. وفي مقدمتها:
(1) سلامة الاقتصاد الوطني وحماية دخل المواطنين، والانتقال من اقتصاد الوظيفة والريعية إلى اقتصاد الإنتاج والاعتماد على الذات. (2) الإصلاح السياسي الذي طال انتظاره وأثبتت السنوات أن الدولة لا تتقدم دون نظام سياسي يقوم على الديمقراطية الحقة، وتداول السلطة، والحكومات المنبثقة عن أحزاب وطنية لها برامجها التي تأخذ الثقة على أساسها. (3) حماية الطبقة الوسطى باعتبارها العمود الفقري للاقتصاد الوطني، والتي راحت تتآكل حتى وصلت إلى أقل من 20 % من السكان، في حين أنها تتنامى في الدول الناهضة. (4) تشجيع المشاريع الصغيرة والمتوسطة لأنها المولّد الحقيقي لفرص العمل والفضاء الأوسع للإبداع الفردي والجماعي والتي توظف أكثر من 85 % من القوى العاملة. (5) مأسسة الشراكات بين القطاعين العام والخاص، بعد أن أصبح القرار الحكومي المنفرد هو النمط السائد في كل مجال. (6) الإصلاح الإداري، وقد تراجعت الإدارة الأردنية في الأداء وتضخمت في الحجم إلى حد الترهل، بعد أن كانت في طليعة الدول العربية. (7) وضع معايير للأداء باتجاه تحفيز الإبداع وتنمية الكفاءات والتدريب المستمر، في الوقت الذي لا يتفاعل الجهاز الحكومي مع متطلبات المرحلة من سرعة وكفاءة وإنجاز. (8) الخروج من نمطية الفساد والواسطة، والتي راحت تنخر في جسم الدولة وتنفر المستثمرين وتأكل نسبة ملحوظة من الناتج المحلي. (9) تعزيز الأتمتة والرقمنة والرقابة والشفافية وتمكين عقلية الموظف إزاءها، خاصة وأن الأتمتة والرقمنة أصبحتا عنوان المرحلة، ومن الآليات المتقدمة للإنجاز والإنصاف. (10) التوسع في وضع مدونات سلوك لتغطية المساحة الرمادية بين القانون والأخلاق، وسد الثغرات القانونية التي ينفذ منها أصحاب المصالح والمآرب. (11) تعزيز العدالة والإنصاف وسيادة القانون.
وجاءت هذه النقاط في وقت يتطلع فيه المواطن إلى المستقبل على أمل الخروج من الأزمة الاقتصادية الاجتماعية الصحية التي فرضها كورونا، إضافة إلى الأزمة التاريخية في القطاعات المختلفة والناشئة عن ترحيل المشكلات من عام إلى آخر ومن حكومة إلى أخرى ومن قطاع إلى آخر، حتى أصبحت بعض القطاعات على الحافة كالزراعة والمياه والسياحة.
وإذا استعرضنا العديد من الوثائق والتوجيهات الملكية وخطابات العرش و”الميثاق الوطني” و”الأجندة الوطنية” و”كلنا الأردن” و”الأوراق النقاشية”، نجد أن هذه النقاط كانت ترد باستمرار على لسان الملك بصورة أو بأخرى ولكنها كانت موجودة دائماً. والسؤال: لماذا لم يتم التنفيذ على مدى ثلث المئوية الأولى؟ خاصة وأن الملك يريد أن يراها حقيقة قائمة، والأردنيون يريدونها كذلك حقيقة ناجزة. فمن الذي لا يريد؟ ما الأسباب أو الجهات التي تمنع الحكومة من المبادرة والقرار والتنفيذ؟ إن جزءاً كبيراً من الإصلاحات لا ينتقص من سلطات أو امتيازات أحد، وجزء آخر من الإصلاحات لا يتطلب أموالاً واستثمارات، بل على العكس إنها توفر الأموال كالإصلاح الإداري والقضاء على الواسطة والفساد.
إن الأمر، وكما يقول الملك، يتطلب “الإرادة”. ولماذا تكون إرادة الإصلاح غائبة لدى الحكومات المتعاقبة؟ فالإرادة تنبع من الداخل ومن ثقة المواطنين، ولا تأتي من الخارج، بل تنبع من قلب الإدارة. كذلك فإن التشارك الحقيقي مع القطاع الخاص وإنشاء مدونات السلوك لضبط الأداء الحكومي والبرلماني وضبط أداء الشركات يهدف في النهاية إلى تحقيق المصلحة الوطنية للدولة لتستفيد منها جميع الأطراف. من يمنع أن تكون هناك مدونات سلوك تضبط رواتب المسؤولين والمفوضين من الحكومة إلى الشركات المساهمة العامة بدلاً من شعور المجتمع بالظلم والاستياء بسبب المبالغة المجحفة؟ أما المطالبات بتعديل قانوني الأحزاب والانتخابات فلم تنقطع على مدى خمسة وعشرين عاماً، وتجاوزت الأوراق والمقالات حول الموضوع الآلاف… ولكن لم تستجب الحكومات… لماذا؟ من الذي لا يريد أن تقوم الحياة السياسية على أساس راسخ من الديمقراطية والحزبية والبرامجية التي فصلتها الأوراق النقاشية بإسهاب؟ من الذي لا يدرك أن قوة الدولة الفعلية ومنعتها وسلامتها لا تأتي من الدعم الخارجي الذي يمكن أن يتغير في أي لحظة، وإنما تتحقق بالتماسك الوطني وبتجسير الفجوة بين المواطنين والإدارة، وبالمشاركة الحقيقية بين المؤسسة الرسمية وبين القطاعات الأهلية والأكاديمية والقطاع الخاص. ولماذا تبقى هذه الشراكات والتشبيكات حبراً على ورق؟ فتتبخر التطلعات الوطنية بسبب الإحباط.
هناك أسباب رئيسية خمسة وراء غياب الإرادة التي أشار إليها الملك. الأول: الوهم بأن المساعدات والمنح والدعم الخارجي والاقتراض والاستنفاع والاستكساب والاسترضاء كفيلة بحل جميع المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. الثاني: إن وثائق الإصلاح والتحديث مثل “الميثاق الوطني” و”الأوراق النقاشية” و”الأجندة الوطنية” وغيرهما، ليس لها قوة قانونية ولا تشكل إلزاماً والتزاماً لأي حكومة أو وزير أو حتى موظف بسيط. وبالتالي تبقى مجرد أدبيات إعلامية موسمية. هذا، بينما تذهب الدول الأخرى إلى البرلمان لإقرار وثائق الإصلاح والاستراتيجيات الوطنية، حتى تصبح ملزمة للدولة بأسرها. الثالث: محاولة تجنب المواجهة مع قوى الشد العكسي ومع المتنفذين وأصحاب المصالح المستفيدين من الحالة الراهنة. الرابع: الانفرادية السلطوية، لقد ترسخ في ذهن الكثيرين في الجهاز الإداري للدولة أن المسؤول ومن معه من الموظفين يعرفون كل شيء بل ويعتبرون أن التشارك والتشاور دليل ضعف وقلة حيلة. وبالتالي لا داعي لاستشارة أو مشاركة أحد سواء من القطاعات ذات العلاقة أو من الخبراء. الخامس: اعتماد مبدأ تدوير الأشخاص وإعادة صياغة التعليمات كوسيلة لمواجهة الضغوط الشعبية، أو حتى التوجيهات الملكية، بدلاً من وضع سياسات وبرامج محددة للتغيير والتطوير يلتزم بها الموظف الصغير كما يلتزم بها المسؤول الكبير.
إن رؤية الملك لما علينا فعله في مطلع المئوية الثانية تتبلور في المحافظة على عروبية الأردن ودعمه المتواصل للحقوق الفلسطينية، والعمل في اقتصاد وطني إنتاجي حديث يتشارك فيه بحيوية وثقة القطاع الخاص، والقطاع الأكاديمي ليقدم المشورة العلمية، والقطاع العام الذي تم ترشيقه لكي لا يزيد على 20 % من القوى العاملة، وتم الانتهاء فيه من الهيئات والمؤسسات المتكررة، وتأهيل موظفيه ليكونوا مبدعين يعملون لخدمة المواطن، ورعاية مشاريعه واستثماراته، وتنفيذ السياسات والبرامج لحكومات تصل من خلال العملية الديمقراطية التي تقودها الأحزاب ويشارك فيها الشباب.
وحتى تتحول هذه الرؤية الملكية إلى وثيقة وطنية: هل تعيد الحكومة صياغتها وتقدمها لإقرارها من مجلس الأمة لتصبح ملزمة وعابرة للحكومات ومقياساً للأداء.؟؟… تلك هي المسألة.. والتحدي أمام من يريد أن يصنع المستقبل.