يتمتع الأردن بمركز متوسط بين دول الشرق الأوسط، وهو بالإضافة إلى توسطه الجغرافي، فإن السياسة المعتدلة للدولة الأردنية، وعدم الانسياق وراء التكتلات الانحيازية أو ذات الطابع غير السلمي، جعلت التعامل معه من جميع الاطراف ميسراً ودون تعقيدات، بل ومرغوبا فيه في معظم الأحيان.
وقد انطلقت في الادارة الأردنية بناء على ذلك عدة دعوات وأفكار، تأتي في مقدمتها: دعوة أطلقها الملك قبل 20 عاماً وهي ان يكون الاردن مركزاً اقليمياً لتكنولوجيا المعلومات. وفكرة ثانية ان يكون الاردن مركزاً للأمن الغذائي في المنطقة. والثالثة قدمها رئيس وزراء سابق مؤداها أن يكون الأردن مركزا لتوزيع الطاقة في المنطقة، خاصة باتجاه سورية ولبنان والعراق وفلسطين، والرابعة ان يكون الاردن المركز اللوجستي في المنطقة لتيسير حركة التجارة والنقل، والفكرة الخامسة ان يكون الاردن نقطة جذب للاستثمار الخارجي والمشاريع، وفكرة سادسة ان يكون الاردن مركزاً دبلوماسياً لجميع دول المنطقة، وأفكار اخرى مشابهة.
وبطبيعة الحال فإن هذه الأفكار ومثيلاتها على درجة كبيرة من الأهمية من منظور سياسي واقتصادي وإقليمي، وتستحق كل الاهتمام. ولدى الأردن من رأس المال البشري ومن العلاقات الإقليمية والدولية ما يمكنه من النجاح إذا قرر الانخراط في العمل الجاد. ولكن التحدي الحقيقي امام الدولة، هو ليس فقط في اطلاق الأفكار والاقتراحات على اهميتها، وانما في تطبيق هذه الافكار وجعلها مشروعاً وطنياً، لتصبح أمراً واقعاً يعيشه المواطن، خاصة اذا كانت الدولة هي المركز ونقطة الانطلاق.
إن الشركاء المحتملين (باستثناء الكيان الصهيوني) لا ينظرون الى الخرائط فقط ويأخذون القرار على ضوئها، وانما ينظرون بالدرجة الأولى الى آليات الإدارة وإلى البنية التحتية ذات العلاقة بالموضوع وإلى الشراكات التي ستعمل معها، وهل هي قادرة على التعامل مع المشاريع الإستراتيجية الجديدة وبالتالي حمل اعباء جديدة، فاذا لم تكن هناك بنية تحتية مناسبة، ولا ماكنة إدارية تتسم بالفاعلية والكفاءة، ولا شركاء بعيدين عن سيطرة الاستنفاع والبيروقراطية، فلا يعود أحد يعنيه الموضوع.
ففي مجال تكنولوجيا المعلومات، سبقتنا للأسف دول كثيرة، واليوم يحتل الأردن المركز 7 في المنطقة و المركز 64 على مستوى العالم في حين تحتل دولة صغيرة مثل قبرص المركز 32 على مستوى العالم. أما دليل تكنولوجيا المعلومات والاتصالات لدينا فهو 50 (من 100) و تسبقنا في هذا المجال كل من البحرين وقطر والإمارات المتحدة والسعودية وعمان والكويت. هذا مع توفر رأس المال البشري لدينا من الفنيين والمهندسين والخبراء.
وفي مجال النقل واللوجستيك، صحيح ان الاردن يمكن ان يكون مركزاً إقليمياً يربط دول الخليج بالبحر الأحمر والبحر المتوسط من خلال العقبة ثم مصر، وبالتالي اختصار آلاف الكيلومترات البحرية في الخليج ثم حول الجزيرة العربية، ولكن السؤال هل تم تنظيم النقل العام في الداخل الاردني؟ أين أنظمة النقل الحديثة؟ ولماذا لم يكن هناك اهتمام جاد لتطويرها على مدى السنين؟علما بان النقل الحديث هو أحد الأركان الرئيسة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية.
ما الذي يمنع العمل على إنشاء سكة حديد وطنية تربط شمال الأردن بجنوبه، وتربط المحافظات بعضها ببعض، وتربط المدن بالقرى وتحافظ على توازن التوزيع الديموغرافي؟ وحينذاك، يمكن أن تبني السعودية استكمالاً لها في الأراضي السعودية حتى الخليج العربي.
هذا مع التذكير أن الخط الحديدي الحجازي دخل الأردن قبل 114 سنة. ولماذا هناك تجاهل لبناء منظومة أنابيب للنفط والمشتقات النفطية والاكتفاء بالنقل الفردي بالصهاريج لتنقل أكثر من 100 ألف برميل يوميا علما بأن خط التابلاين دخل البلاد قبل 75 سنة؟ كثيرا ما يقال أن الولايات المتحدة الأميركية ووراءها إسرائيل تضع العراقيل أمام السكة الحديد من العقبة إلى شمال المملكة تمهيدا لشبكة إسرائيلية خليجية تبدأ في حيفا لتعبر شمال الأردن تم السعودية وتنتهي في الإمارات المتحدة، كجزء من استراتيجية دولة الاحتلال للسيطرة على المفاصل الحيوية للشرق العربي.
وفي مجال الطاقة صحيح أن لدينا ربطا كهربائيا مع سورية ويمكن أن يمتد خط النقل الى لبنان، وصحيح ان لدينا خط ربط كهربائي مع فلسطين، وان اتفاقا تم توقيعه لإنشاء خط مماثل مع العراق.
ولكن السؤال المهم هل بإمكان الاردن تصدير الطاقة الكهربائية بكميات معقولة وبشكل منتظم؟ ولفترات طويلة وبأي كلفة؟ كيف يستطيع الاردن تصدير الطاقة الكهربائية بكميات مقبولة وكلف اقتصادية منافسة وهو مستورد للوقود اللازم لتوليد الكهرباء؟ ان كلفة الوقود تصل اليوم إلى أكثر من 80 % من الكلفة الإجمالية للطاقة الكهربائية. بمعنى أن قاعدة القدرة التنافسية لا ترتكز إلى مجرد توفر الاستطاعة التوليدية كما هو الحال لدينا، وإنما تعتمد بالدرجة الأولى على توفر الوقود بأسعار مناسبة ومضمونة لفترة زمنية متوسطة أو طويلة.
فجدوى مشاريع الربط لغايات تصدير الطاقة الكهربائية يعتمد بالدرجة على سعر الوقود. وللأسف، ورغم توقف خط التابلاين منذ 35 سنة، لم نوقع حتى اليوم أي اتفاقية طويلة الأمد مع دول عربية منتجة للنفط أو الغاز مثل العراق او السعودية او قطر او الجزائر لاستيراد الوقود. وقبل بضعة أسابيع اتخذت الحكومة العراقية قراراً بالتخلي عن مشروع خط النفط المقترح من العراق الى العقبة على الرغم من مرور سنوات وسنوات على البحث والتفاوض حول المشروع وإعداد الوثائق والمخططات ورسائل النوايا.
وكما يبدو فإن الحكومة العراقية تتجه للذهاب نحو الاراضي السورية لتصل البحر المتوسط عن طريق بانياس. ان الاتفاقية الوحيدة التي تمتد لـ 15 سنة هي اتفاقية الغاز الاسرائيلي.
فهل ستكون اسرائيل مصدر الوقود للكهرباء المصدرة الى سورية ولبنان والعراق وفلسطين؟ أن تكون الاردن مجرد منطقة عبور كما كان عبور خط التابلاين مقابل رسوم بسيطة فإنه لا يضيف شيئاً يذكر الى الاقتصاد الوطني. عدا عن ان الاعتماد على الغاز من اسرائيل سيفتح المجال لها واسعا للتحكم والابتزاز، وسيكون الاردن في وضع ضعيف بالتزامه امام مصدر الوقود والتزامه امام مستوردي الكهرباء.
والواضح أن إسرائيل تسعى للتشبيك الإقتصادي مع لبنان والعراق من خلال الطاقة الكهربائية عبر الأردن. إن الموضوع أكثر تعقيدا اقتصاديا وسياسيا مما يبدو على السطح خاصة بعد المساهمات المستمرة وغير المعلنة لإسرائيل في إنهاك وتفكيك كل من العراق سورية ولبنان.
وأن يكون الأردن مركزا إقليميا للأمن الغذائي فذلك أمر جيد تماما. إلا أن ذلك يتطلب مرافق تكنولوجية حديثة لتصنيع وتخزين ونقل المواد الغذائية على أنواعها، إضافة إلى التفوق في علوم وتكنولوجيا الزراعة الحديثة والمائية والزراعة الذكية، إضافة إلى مكننة الزراعة والتوسع في تحلية وتوليد المياه. الأمر الذي لم نتحرك فيه بخطوات واسعة مبرمجة. هذا علما بأن إسرائيل تسعى لتأخذ هذا الدور منذ سنوات.
إن عدم استقرار القوانين والأنظمة، والتغييرات الهيكلية والإدارية والتشريعية الانتقائية المتتالية، وتعثر الكثيرين من المستثمرين دون مبادرات جادة للمعالجة، كل ذلك يدفع الاستثمار بالاتجاه المعاكس، ويضع الأردن في منزلة غير متقدمة في سهولة الاستثمار حيث نشغل المرتبة 75 على مستوى العالم، وتسبقنا في سهولة الاستثمار المغرب 53 وقبرص 54 والسعودية 62 وعمان 68.
وأخيرا لا بد من الاعتراف بأن الإشكالية المزمنة لدينا في هذا المجال تعود إلى أسباب رئيسة ثلاث الأول: أن الحكومة تكتفي بالإشادة بالفكرة ونشرها في وسائط الإعلام، لتذهب بعد ذلك إلى زوايا النسيان الثاني: غياب الخبراء لدى المؤسسة الرسمية لوضع المتطلبات التنفيذية والقيمة الاقتصادية للمشروع الثالث: تجاهل التنافس الدولي، وأن المشروع الذي لا ينفذه صاحبه ينفذه الآخرون ويكون لهم السبق والتفوق.
إن المستقبل الأفضل يتطلب أن يتحرك الأردن عمليا ليكون له دوره المحوري في المنطقة وليحكم السيطرة على المفاصل الحيوية التي يحاول الآخرون اختطافها.