لعل السنة المنقضية منذ انطلاق طوفان الأقصى في 7/10/2023 أوضحت العديد من المسائل التي كانت قائمة على أرض الواقع ولكنها كادت تغيب عن عيون وعقول المجتمع الدولي عموما والمجتمع العربي بشكل خاص والنظام العربي الرسمي على الأخص. فبعد اتفاقيات السلام، وإعلان الجانب العربي أن السلام مع إسرائيل هو خيار إستراتيجي كما كان يردد العديد من الزعماء العرب وبعد مبادرة السلام العربية عام 2001 وتجاهلها كلية من كيان الاحتلال، توارت عن الأنظار الكثير من المسارات الإستراتيجية الإسرائيلية مما دفع عددا من الدول العربية للمسارعة في التطبيع مع إسرائيل ولأسباب مختلفة. ونجحت الدعاية الإسرائيلية والضغوط الأميركية على المنطقة العربية في تجسيم عدو جديد للمنطقة ألا وهو إيران. ساعد على ذلك التفكك العربي من جهة، وغياب الحوار العربي الإيراني المستمر من جهة ثانية، والتدخلات الإيرانية السلبية في الكثير من المسائل في المنطقة العربية من جهة ثالثة. واستغل نتنياهو فكرة شيطنة إيران وصراعه معها على النفوذ كدول مسيطرة، فجعلها محورا للشر على مستوى المنطقة بكاملها، بل وعلى مستوى أوروبا وأميركا والعالم، مستفيدا من الغياب العربي ومن الإستراتيجية الأميركية القائمة على منع أي دولة من امتلاك التكنولوجيا النووية، كلما أمكن ذلك، والعمل على منع أي دولة في المنطقة العربية من حيازة السلاح النووي، واعتبار أن أمن إسرائيل وبقاءها يتطلب أن لا تكون هناك دولة نووية وقوية بالمنطقة سواها.
وخلال الأشهر الماضية وما قامت به إسرائيل من فظائع في غزة وتطبيق خطة الجنرالات بشن حرب تهجير وإبادة حتى تعدى عدد الشهداء 42 ألف والمصابين 100 ألف والتدمير الكاسح في غزة وفي الضفة الغربية، وبعد نجاح إسرائيل في اغتيالاتها لقادة حماس وحزب الله فقد راح نتنياهو وحكومته وبكل عنجهية ودموية يتحرك بكامل الحرية في المنطقة معبرا وبأقوى العبارات عن التطلعات الاستعمارية العنصرية للمؤسسة الصهيونية ومتمتعا بالتأييد الكامل من المجتمع الإسرائيلي والإدارة الأميركية بتحالفاتها الأوروبية.
وهذا يشمل العديد من النقاط التي يجب أن تقرأ من منظور مستقبلي، وليس باعتبارها جزءا من أحداث العام الماضي أو أنها مجرد تصريحات متطرفة.
اولا: استعداد إسرائيل لاستخدام كل وسائل التدمير والقتل الجماعي دون التمييز بين عسكري ومدني وبين مقاتل وطفل وامرأة ودون الاهتمام بأي مؤسسات إنسانية.
والتركيز دائما على تدمير البنية التحتية للقرى والمدن. فماذا ستفعل الدول العربية ازاء هذه المسألة؟
ثانياً: إن الدعم الأميركي لإسرائيل هو دعم بدون حدود.
وهذا من شأنه ان يضع شكوكا كبيرة حول المواقف والإجراءات الأميركية إزاء الدول العربية إذا تعارضت ليس فقط مع أمن إسرائيل، ولكن إذا تعارضت مع رغبتها في التوسع، وقد سبق أن نوه ترامب بأن مساحة إسرائيل صغيرة وهي بحاجة إلى مزيد من الأرض، أو إذا تصاعد التطرف العنصري ضد الفلسطينيين أو أي شعب عربي آخر يتعرض للعدوان الإسرائيلي.
ثالثاً: إن اسرائيل في جوهرها وسياساتها وأفكارها مشروع استعماري على طراز الاستعمار الأوروبي في القرون الماضية وهو ينظر إلى المنطقة العربية وخاصة سورية ولبنان والأردن ومصر والعراق والسعودية كما صرح سموتريتش انها فضاءات للتوسع، تماماً كما كان ينظر المهاجرون الأوروبيون إلى القارة الأميركية، وكما كان ينظر الاستعمار البريطاني والفرنسي والأميركي إلى دول آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية.
صحيح أن ما يقوله سموتريش ونتنياهو هو اليوم مجرد أماني وأحلام ولكن إفشال هذه الأوهام والأحلام يتطلب من كل دولة بذاتها، ومن مجموعة الدول العربية الكثير من العمل والبناء العلمي والتكنولوجي والاجتماعي والعسكري على مدى زمني طويل.
رابعاً: إن النجاح الذي حققته إسرائيل في الاغتيالات وتدمير أنظمة الاتصالات لحزب الله تبين بوضوح جانبين متلازمين في إسرائيل: التقدم العلمي التكنولوجي من جهة، والتوغل التجسسي من جهة ثانية.
وهذا يعني أن على الدول العربية مراجعة هذين الجانبين بعمق وعقلانية واتباع مدخل علمي تكنولوجي طويل النفس للمواجهة. صحيح أن الولايات المتحدة وحلفاءها وخاصة بريطانيا والمانيا تقدم لإسرائيل كل أنواع الاسلحة من جهة، وكل المعلومات الاستخباراتية من جهة ثانية، ولكن أمن الدول العربية يتطلب إعادة النظر في إنجازاتها التكنولوجية وخاصة في الاتصالات والأمن السبراني وفي مدى اتاحة المعلومات للآخرين.
خامساً: نجحت إسرائيل ووافقها الإعلام الغربي في تصوير الصراع في المنطقة بصورة مشوهة الا وهي أن إسرائيل تحارب ضد أحزاب أو جماعات متطرفة وليس ضد بلدان.
وأنها تواجه التطرف والإرهاب وليس الشعوب التي تدافع عن تراب أوطانها وحقوقها.
فعنوان ما يجري في غزة عندهم هو: إسرائيل –حماس، وما يجري في لبنان هو إسرائيل- حزب الله. ورغم أن الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية أصدرتا القرارات بأن على إسرائيل أن تنهي احتلالها وتعطي الفرصة للشعب الفلسطيني لتقرير مصيره، إلا أن التصريحات الأوروبية الأميركية لا تذكر كلمة الاحتلال وإنما تتحدث عن حق إسرائيل في الدفاع عن النفس، ولذا فهي في زعمهم مجرد حرب بين إسرائيل وجماعة متطرفة. فهل يتحرك الجانب العربي لبناء الصورة الصحيحة؟
سادسا: استطاع التحالف الأميركي أن يغيب القانون الدولي ويكبل المؤسسات الدولية ويبعد كل ما يسمى المجتمع الدولي ويرهب المجموعة العربية، فتمادى نتنياهو والعاملون معه ليحقر الأمم المتحدة ويعتبر الأمين العام للأمم المتحدة شخصا غير مرغوب فيه، ويهدد بأن يد إسرائيل يمكن أن تصل أي مكان في منطقة الشرق الأوسط التي يسعى ليشكلها كما يريد. فأي ترتيبات وبرامج سترسمها الدول العربية التي تطمع إسرائيل بابتلاع أجزاء من أراضيها؟
وأخيرا فإن صمود الشعب الفلسطيني وتضحياته، وانتهاء الانقسام بين الفصائل، وإدراك السلطة لمسؤوليتها في هذه المرحلة، يمثل كل ذلك بوابة النجاح للفلسطينيين. إلا أن قراءة ما يجرى منذ 7 اكتوبر وحتى اليوم يتطلب الوعي بالمستقبل ومتطلباته فلسطينيا وعربيا حتى لا تقع الدول العربية في بحر النسيان فينهش من أجسامها الطمع الاستعماري الصهيوني.