في إطار أسلوب عمله القائم على المفاجآت غير المتوقعة، والقرارات الارتجالية التي تجسد عقلية الصفقات التجارية، أصدر الرئيس الأميركي دونالد ترامب عددا من الأوامر التنفيذية، بعضها يخص الولايات المتحدة نفسها، والبعض الآخر يترك نتائجه على دول أخرى قريبة أو بعيدة عن أميركا، وبعضها يلغي مشاركة أميركا في مؤسسات واتفاقيات دولية مهمة. إذ أعلن ترامب فور دخوله البيت الأبيض انسحاب أميركا من منظمة الصحة العالمية، ومن اتفاقية باريس للمناخ، وفك التزامه من موضوع الانبعاثات الكربونية، ودعا الأميركيين للاستثمار في استخراج النفط والغاز بأكبر كميات ممكنة. وفي نفس الوقت أصدر أمره بوقف المساعدات الأميركية والبالغ مجملها 68 بليون دولار سنويا، وقفها لمدة ثلاثة أشهر عن جميع دول العالم بما فيها الأردن، واستثنى من وقف المساعدات كلا من إسرائيل ومصر.
وبالنسبة لنا، فإن المساعدات الأميركية المتفق عليها تصل إلى 1.8 مليار دولار سنوياً يذهب جزء كبير منها لدعم الموازنة، وجزء آخر لمعدات القوات المسلحة، وما يتبقى يذهب لمشاريع استكمالية متفرقة، تتركز في البنية التحتية والتعليم والصحة والمياه، دون أن يذهب أي جزء منها لإنشاء المشاريع الإنتاجية التي تحمل إضافة دائمة إلى الاقتصاد الوطني. إن قرار الرئيس ترامب باستخدام المنح والمعونات والقروض كأدوات سياسية مباشرة، لهو أمر يستدعي التفكير بعمق وحرص ونظرة مستقبلية في موضوع المساعدات والمنح، والذي درجت الحكومات الأردنية المتعاقبة على اعتبارها جزءا ثابتا في مصادر التمويل على مدى المائة سنة الماضية، حتى أصبحت المنح والمساعدات ومن ثم القروض فصلا رئيسيا في ثقافة الإدارة الحكومية. ونشأ على هذا التوجه والممارسة الموصولة، باستثناء عام 1979 في حكومة مضر بدران، العديد من الإشكاليات الكامنة ونقاط الضعف المغطاة وعلى النحو التالي:
اولا: تهميش المساهمة المجتمعية في التعامل مع متطلبات التنمية ومن توفير التمويل ولو جزئيا لمواجهة الاحتياجات الوطنية.
ثانياً: التزايد المطرد في المعونات والمساعدات، ومن ثم الاقتراض أفقيا وعموديا دون وضع ضوابط نوعية وكمية لها، ابتداء من بناء مدرسة أو توسيع جناح في مستوصف ومرورا بمفردات البنية التحتية وانتهاء بالناقل الوطني.
ثالثاً: التوسع المفرط في البحث عن المساعدات والمنح، حيث ان كثيراً ما تكون المنحة أو المساعدة مدخلا مغريا لقرض ستذهب إليه الحكومة.
وهكذا تسارع نمو المديونية حتى وصلت اليوم إلى ما يقرب من 42 مليار دينار مقابل 10.7 مليار دينار عام 2010 أي بزيادة معدلها 2.3 مليار دينار سنويا. وتعمق الاعتماد على المنح والمساعدات وغدا الترويج لمزيد من الاقتراض ومن المعونات فصلا ثابتا في الإعلام الرسمي وتصويرها على اعتبار انها إنجازات مهمة ودليل على الثقة بالإدارة الاقتصادية في البلاد.
وفي الوقت الذي أمر ترامب بإيقاف المساعدات راح يكرر الطلب من الأردن ومصر قبول مهاجرين فلسطينيين من غزة ولأسباب إنسانية حسب زعمه. ورغم الرفض القاطع من الدولة الأردنية
وعلى لسان جلالة الملك، والرفض الدبلوماسي من مصر، إلا أن ترامب راح يصرح بأن مصر والأردن ستوافقان على ما يدعو إليه. ولعل هذا الطلب يؤكد بكل وضوح أن لا معونات ولا مساعدات بدون ثمن وأن المانح للمساعدة ينتظر اللحظة المناسبة لطلب الثمن أو فرضه بالاكراه.
اليوم، وبعد احتفال الأردن بعيده المئوي، واحتفالنا جميعا باليوبيل الذهبي للملك عبدالله الثاني، آن الاوان أن نطبق مبدأ” الاعتماد على النفس” الذي نادى به الملك منذ سنوات وفي أكثر من مناسبة. إن الاعتماد على النفس في هذا الجانب ممكن وليس مستحيلا، وتستطيع الدولة في إطار برنامج واضح عابر للحكومات أن تخفف تدريجيا من الاعتماد على المساعدات والقروض، خاصة وأن أحدا لا يستطيع أن يضمن محاولات الابتزاز والضغط على الأردن التي سيقوم بها الكيان الصهيوني ممثلا بنتنياهو ومن سيأتي بعده. وبالتأكيد سوف يلجأ الكيان إلى الإدارة الأميركية (ترامب أو خلفه) لتحقيق غاياته الشريرة مثل ضم الضفة الغربية أو جزء منها أو السيطرة على الأماكن المقدسة أو ترحيل حملة الجوازات الأردنية في فلسطين المحتلة وغير ذلك.
إن الخروج التدريجي من نفق المساعدات والقروض يمكن تحقيقه من خلال مداخل عديدة في مقدمتها:
اولاً: ضغط النفقات الحكومية بنسب سنوية معقولة تتراوح بين 5 % إلى 10 % من الموازنة.
ثانياً: دمج الهيئات المستقلة مع الوزارات ذات العلاقة والإفادة من فائض النفقات لتلك الهيئات.
ثالثاً: دعوة المجتمع للمشاركة في تمويل المشاريع الصغيرة والكبيرة والمتوسطة وذلك من خلال الشركات المساهمة العامة الجديدة التي تساهم فيها مؤسسات الاستثمار الحكومية إضافة إلى الشركات الكبرى والمواطنين.
رابعاً: الاهتمام العملي بتفعيل دور صناديق الادخار والاستثمار والتعاونيات كما صرح الدكتور جعفر حسان رئيس الوزراء وتنظيم أعمالها ودعمها باعتبارها أدوات اقتصادية مجتمعية مهمة، ودعوتها للمشاركة وخاصة في المشاريع ذات العلاقة بالقطاعات الصناعية والزراعية والسياحية ومشاريع الإنتاج في المحافظات.
خامساً: ضبط التهرب والتجنب الضريبي والذي يقدر سنوياً بمئات الملايين، خاصة وان الأنظمة الإلكترونية اليوم تساعد على ذلك تماماً.
سادساً: الإسراع بحل مشكلات الشركات المتعثرة ووضع الضوابط اللازمة لعدم تكرار مثل هذا التعثر على نطاق واسع.
سابعاً: الاهتمام بالادخار والاستثمار الجمعي، وبالمستثمر الأردني بالدرجة الأولى والخروج من شبكة الإجراءات المعقدة وعدم استقرار التشريعات.
وأخيرا فإن زمن المعونات والمساعدات البريئة قد انتهى، ولا يعود إلا بدفع اثمان سياسية واقتصادية باهظة، وهو ما لا يريده الأردن، إن إمكانات الثروة البشرية لدينا يمكن أن تدفع إلى فضاء أكثر اعتمادا على النفس ودون دفع ثمن الاعتماد على الآخرين.