اجتازت الدولة الأردنية المئوية الأولى من عمرها المديد بثقة وجهد وإنجاز، واستطاع الأردنيون أن يؤسسوا دولة ناجحة، سواء من حيث التعليم أو الثقافة أو الاقتصاد أو السياسة أو العلاقات الإقليمية و الدولية. وصمد الأردن أمام تحديات داخلية وخارجية كثيرة ، وكان أبرز دعائم ذلك الصمود القيادة الحكيمة، والإدارة المتعقلة، ووطنية الأردنيين واعتدالهم ووسطيتهم، والتطلع العروبي والإنساني للنظام وللمجتمع، والابتعاد عن العنف والتطرف. وانضمت الأردن إلى معظم الاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي تعزز حقوق الإنسان والتعليم والثقافة والصحة والبيئة ، دون أن يكون هناك غبن في معظم الحالات لأي طرف من الأطراف.
اليوم، ونحن نطل على فضاء المئوية الثانية، يتساءل الجميع: ما الإنجازات التي يجب أن نسارع إلى تحقيقها؟ أولاً حتى نتلافى أي قصور نعانيه اليوم، وثانياً حتى نتحرك باضطراد نحو التقدم. لأن العالم يتغير بسرعة كبيرة، وما كان كافياً أو مقبولاً قبل خمسين أو عشرين عاماً لم يعد اليوم كذلك. فقبل 30 سنة كنا نفتخر بالإدارة والنزاهة لدينا وبالتعليم والنشاط الاقتصادي، ولكننا اليوم، بسبب التحولات السريعة في العالم والمنطقة، وتراخينا عن التصحيح في موعده، فقد سبقتنا دول كثيرة كانت خلفنا بمراحل. وهكذا أصبحنا بحاجة إلى مسيرة جديدة نخاطب فيها المشكلات الأكثر استعجالاً وحيوية، موقنين أن الاعتماد على الآخرين ليس مجانيا ويمثل طريقا مسدودا غير مجد. إن مكانة الدولة تصنعها من خلال الإنتاج الحديث فقط، والتنافس والإبداع والتفوق. إن البوابات الرئيسية التي لم نتحرك تجاهها بسرعة كافية وأصبحت عبئاً على مسيرة التقدم، تتمثل فيما يلي:
أولا: الديموقراطية: من غير الممكن دخول المستقبل نحو الدولة الحديثة بكفاءة وفاعلية واعتماد على الذات، وقدرة على التنافس في الفضاء الدولي، واستيفاء حقوق المواطنة وتحفيز الحكومات المتعاقبة على العمل بإخلاص وإبداع وإنجاز، دون ديموقراطية حقيقية وليست شكلية، تقوم على الحزبية الوطنية البرامجية المؤدية إلى تداول السلطة.الأمر الذي يتطلب سن قانون أحزاب وقانون انتخاب، ومدونات سلوك للأحزاب ولمجلس الأمة تمكن ممثلي الأحزاب من الوصول السليم النزيه إلى البرلمان الكفؤ المستقل في المناخ الملائم. إن الادارة الفردانية التي شهدتها المئوية الأولى لن تجدي أبداً في المئوية الثانية كما أن المشاورات الموسمية والانتقائية لا تساعد على التقدم أبداً.
ثانياً: الاقتصاد الوطني: لا بد من وضع حد لانسحاب الحكومة من مسؤولياتها الاقتصادية، بدلاً من الاستغراق في الجانب المالي، فيما يتآكل الاقتصاد الوطني نتيجة للخصخصة الخاطئة وغياب السياسات القطاعية وإهمال المكون الوطني في الاستثمار والحلم بالمساعدات والمنح والقروض. وهنا لا بد للدولة من سياسة اقتصادية جديدة ،عمادها الاقتصادالاجتماعي المستند إلى تجميع الثروات الصغيرة لتكوين رأس المال اللازم للمشاريع، والتركيز على المشاريع الإنتاجية الجديدة في المحافظات بمشاركة الحكومة والقطاع الخاص وصغار المستثمرين، بدلا من العقار وشراء ما هو قائم من موجودات.
ثالثا: السياسات: لقد اعتمدنا في المئوية الأولى على تدوير الأشخاص وتعديل القوانين والاطمئنان إلى الحكمة الشخصية دون رسم السياسات القطاعية الوطنية ، وتطويرها خلال التنفيذ. وهذا أدى إلى تراجعات كبرى في معظم القطاعات. والبديل وضع سياسة محددة في كل قطاع بالتشارك، تكون مفهومة لدى جميع الأطراف والشركاء، وتجري برمجة النشاطات وفق هذه السياسات للوصول إلى نتائج لها معايير رقمية محددة .
رابعا: الإدارة: لكي تعمل ماكنة الدولة بالسرعة والكفاءة المطلوبة لا بد من وضع حد للفساد الإداري والمالي المؤجل والمعجل، وانهاء إزدواجية المؤسسات والهيئات، وترشيق الجهاز الحكومي إلى 20 % من القوى العاملة، وتغييرعقلية الموظف لتتلاءم مع الإدارة الإلكترونية، والانتهاء من عقلية التسلط. وهذا يتطلب برامج تدريب وتوجية وتعلم مستمر للموظفين تجاه تفهم السياسات والتفاعل مع الأهداف المرحلية المطلوبة. كما يتطلب الاستعانة بالخبراء والعلماء على أوسع نطاق على شكل لجان استشارية متخصصة في كل قطاع. وتستطيع الجامعات الاردنية والنقابات والاتحادات والجمعيات النوعية أن تكون مصدراً غنياً لهذه الخبرات.
خامسا: العمالة: يعاني الاردن متناقضة غير اعتيادية: بطالة عالية (400 ألف باحث عن العمل) وعمالة وافدة تصل إلى 1.2 مليون بكل اشكالاتها الاجتماعية والبيئية والصحية، واقتصاد متواضع الحجم بحدود 32 مليار دينار وجهاز حكومي يضم 42 % من القوى العاملة ومشاركة ضئيلة للمرأة في سوق العمل(15 %) .الأمر الذي يجعل قوى العمل المنتجة في السوق الأردني ضئيلة تماماً بالنسبة لعدد السكان، مما أوقع الدولة في ارتباكات اقتصادية ومالية وإدارية واجتماعية معقدة وأهدر رأس المال البشري الوطني من عقول و مهارات.
ولا بد من الخروج من هذه المناقضة وفق برنامج وطني متدرج يضعه الخبراء، ويقوم على احتساب الأكلاف غير المباشرة للعمالة الوافدة التي تدفعها الدولة والاقتصاد الوطني ليتحول إلى تعويضات أو خدمات إضافية للعمالة الوطنية، على طريق الإحلال التدريجي للعمالة الوطنية، في إطار من تحسين ظروف وتكنولوجيا العمل وحل المشكلات ذات العلاقة بالنسبة للعامل الأردني.
سادساً: البطالة: باستثناء فلسطين المحتلة فإن الأردن يعاني أعلى بطالة في المنطقة العربية حيث المتوسط العربي 15.9 % والمتوسط العالمي 7.5 % والاردن 19.3 % قبل الجائحة و23 %اليوم. ولا سبيل إلى إزاحة هذا الخطر الاجتماعي الاقتصادي إلا من خلال بوابة المشاريع الإنتاجية التي يجب أن تنتشر في المحافظات والألوية وتسهم فيها الحكومة والقطاع الاهلي، وتحل منتجاتها تدريجياً محل المستوردات. هذا إضافة إلى مبادرة الحكومة لحل مشاكل المشاريع والصناعات القائمة.
سابعا: التشارك والتشبيك: لا بد أن تدرك الدولة والمؤسسات بأنواعها، و يدرك المسؤول والموظف العادي ،أنه دون شراكة حقيقية وتشبيك فعال بين الأطراف الأربعة :القطاع العام والقطاع الخاص والقطاع الاهلي (منظمات مجتمع مدني) والقطاع الأكاديمي باعتباره مستودعاً للعلم والخبرة ، فإنه لا يمكن الخروج من الازمات المتفاقمة في الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والإدارية. ومثل هذه الشراكة ينبغي تنظيمها بتكافؤ وفق قوانين مستقرة ومدونات سلوك تحافظ على الأبعاد الوطنية والإنسانية والأخلاقية و العلمية.
ثامنا: مثلث المياه والغذاء والطاقة: وهو المثلث الأكثر هشاشة، والذي تحاول اسرائيل العبث به، مع دخول العالم مراحل بالغة التعقيد بالتغيرات المناخية وتأثيراتها السلبية في منطقتنا على المياه وإنتاج الغذاء، وإن استمرار الحالة الغذائية والمائية والطاقة على حالها سيشكل نقطة ضعف لا يجوز السكوت عنها. ومن هنا فإن إستراتيجية وطنية على مستوى الدولة تركز على الطاقة المتجددة وتكنولوجيات المياه بتنوعاتها و الزراعة الحديثة والسلالات الملائمة يجب العمل عليها حتى يحقق الاردن أمن مثلث الغذاء والطاقة و المياه، دون انتظار للمشاريع الإقليمية التي تحكمها السياسة والمصالح الخاصة بكل دولة.
إن المئوية الثانية يتوقع أن تحمل الكثير من الإنجازات التي تضع الأردن في مصاف الدول الناهضة، خاصة أن الإمكانات البشرية من عقول ومهارات لدينا قادرة على تنفيذ أي إستراتيجية إذا أصبح القرار والعمل والتخطيط والتنفيذ شراكة بين جميع الأطراف وأصبح الإنجاز هو الهدف، إن المستقبل قطار سريع وعلينا اللحاق به بالشكل الصحيح.