من يتابع ما يجري في الأقطار العربية، تصدمه ظاهرة استمرت الآن لأكثر من (25) سنة، وهي العنف والقتل والتدمير والدماء والكراهية والصدام والتشدد والتعنت الذي ارتبط بالجماعات المعروفة بالإسلامية، وبالأذرع السياسية المنبثقة عنها، وبالعمل السياسي التابع لها.
وعلى الرغم من قناعة الجميع دون استثناء بأن الدين شيء والسياسة شيء آخر، و أن ما يقوم به هؤلاء أو غيرهم ليس له علاقة بصحيح الدين من قريب أو بعيد، وأن الدين بريء من القتل و إهدار الدماء والتنكيل والتمثيل، وبريء من التكفير والتقسيم والتفتيت والتعصب، وبريء من القطيعة و تدمير المنشآت، وتعطيل مصالح الناس، وتخويفهم و ترويعهم بالقول أو الفعل، إلا أن التستر وراء الدين في كل ذلك لا زال على أشده. بل إن معاني و مقاصد سامية مثل الأخوة والجهاد والاستشهاد أصبحت تستعمل لتغطية عمليات القتل للناس الأبرياء، والأطفال والنساء، بدلا من أن تكون ضد الأعداء، ودفاعا عن الأوطان.
لقد تفاقم الحال سنة بعد سنة، وعقدا بعد عقد ، ومن جنوب اليمن والسودان إل أقصى شمال سوريا، ومن شرق العراق حتى شواطئ الأطلسي. الأمر الذي يستدعي التفكير لتفهم هذه الظاهرة، والبحث عن حلول علها تخرج هذه المنطقة من أزماتها الوطنية والإنسانية والحضارية، ناهيك عن أزماتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
ما الذي يقنع آلاف الشباب لأن يصبحوا كارهين أو انتحاريينً أو قتلة لأهلهم و جيرانهم و مواطنيهم؟ فيتحول الواحد منهم من إنسان يتلو آيات الله التي تحض على الخير والمحبة والأخوة بين الناس والإقناع بالحسنى والرحمة، إلى قنبلة موقوتة يتم تفجيرها بين العشرات والمئات من الناس الأبرياء..هل هو الجهل أم المال؟ هل هو الحلم؟ هل هي الجنة الموعودة من أمرائهم؟ هل هو الإحباط واليأس بسبب سوء الأحوال وتردي المعيشة؟هل هي الكراهية ؟ هل هي العدمية؟ هل هو التضليل والتغرير و التبسيط والتزييف من خلال عبارات ذات لون ديني أو تراثي؟ هل هي الفلسفة والإيحاءات غير المكتوبة؟ والمناهج المخبوءة والتحريض السري، فيما يصدر اليهم من أفكار وآراء و تعليمات؟ وفيما يصلهم من تفاسير وما يقرؤون من مراجع ؟ هل هو الشعور بالظلم والرغبة في الانتقام؟ أم هي مزيج من كل هذا وذاك ؟
لماذا يصبح من ليس منهم “آخرا” ؟و يتحول “الآخر” فورا في نظرهم إلى عدو؟ و الرأي المخالف إلى كفر؟ والرأي العلمي إلى إلحاد؟ و وجهة النظر الأخرى إلى خروج عن الجماعة؟ والخصم السياسي إلى عدو للدين؟ والمنافس على موقع إلى خصم للشريعة؟ والتساؤلات لا تنتهي.
هل يعقل أن تنعدم سبل المصالحة من الإسلاميين و معهم في كل مكان؟ في السودان و مصر و العراق و سوريا و لبنان و تونس والصومال ؟ أين الخلل؟ ولماذا هذا التصلب والتطرف خاصة عند استلام السلطة أو الاقتراب منها أو التحرك من أجلها.
وبعيداً عن نظرية المؤامرة، و مقولة شيطنة الغرب للإسلام والمسلمين، وغير ذلك من افتراضات ينفيها الواقع اليومي.فالسياسيون والمتظاهرون والمقاتلون والإنتحاريون هم شباب عرب ومسلمون يتلقون أوامرهم وأتعابهم ومكافآتهم من شيوخهم و زعمائهم وأمرائهم وينفذون ما يطلبه منهم رؤساؤهم. و نحن إذا دققنا النظر سنتعرف على المفاصل الرئيسية التالية لدى ِشباب تلك الجماعات والتنظيمات:
أولاً: أزمة العصر: فهؤلاء الشباب يلقنون بأن العصر الذي نعيش فيه كله خداع وزيف وكفر وجاهلية وعصيان. و ان “الآخرين” من دون الجماعة هم صناع هذا العصر بكل ما فيه من أوزار وذنوب وخطايا وفواحش ومظالم، وبالتالي لابد من تغيير هذا العصر وهؤلاء الناس، والعودة بهم إلى الماضي بكل ما فيه من إيمان. وهذا لا يقع إلا بالسلطة و القوة والدم.
ثانياً: أزمة الماضي: والماضي الذي يتم تصويره وصياغته في العقول هو ماض مشرق كله عدل ورخاء، ولكنه قام على الغزو والشهادة ومواجهة الجاهلية بالسيف والدم.
ثالثاً: الوطنية:إن معظم هذه الحركات لا تؤمن بشيء اسمه الوطن بحدوده و سيادته و دستوره و قوانينه و شعبه.و رسالتهم بين السطور هي أن الوطن لا يعدو أن يكون جزء من الدولة الكبيرة أو أمارة أو ولاية من ولايات الخلافة.و أن المواطن الأقرب و الأولى بالرعاية هو ليس ابن الوطن و أنما عضو الحزب أو الجماعة أو التنظيم. و هذا من شأنه أن يقتل في نفوس الشباب التعاطف مع أبناء وطنه والمشاركة بقضايا الوطن الحقيقية.و يلغي من وجدانهم دستور البلاد وقوانينها و تشريعاتها لان هناك بديل سوف يأتي في مقبل الأيام. وقال أحد القادة منهم يوما “إن الوطنية نوع من الوثنية”.
رابعا: الدولة :ولأن الانطلاقة الفكرية والنفسية والسياسية لهذه الحركات تعود إلى الماضي البعيد زمن قريش والجاهلية والدعوة النبوية الكريمة حيث لم يكن آنذاك دولة بالمفهوم المعاصر. وعليه فإن إطار الأفكار والأحداث و الأفعال و المواقف يقع دائما خارج مفهوم الدولة. والآن تجد هذه الجماعة تعلن إنشاء دولة الشام و أخرى دولة العراق وثالثة فسطاط مصر وهكذا . و بالتالي فغن توقف أعمال الدولة تعطل مصالح الناس لا يعني شيئا كثيرا فهم يستطيعون أن يأخذوا الأمر بأيديهم.
خامسا الخلافيات والشباب: إن التراث في كتبه و رواياته وشخوصه مليء بالاختلافات و التناقضات والتباينات.لكن كل هذا لا يخضع للتحليل والتمحيص إلا لدى الدارسين والباحثين.أما الشباب فيأخذون ما يتجاوب مع العنف والشدة في الظروف السائدة. فبعضهم كفر المسلمين المعاصرين و أباحوا موالهم و أرواحهم ، والقرضاوي حمل سيد قطب مسؤولية تكفير المسلمين ومحمد مرسي لم ير في سيد قطب إلا الإسلام والفكر الواسع والنظرة العالمية وكلاما يحرك الوجدان .لكن الأهم من كل ذلك هو: ماذا يبقى في عقول ووجدان الشباب من أقوال هذا أو ذاك . والشباب أميل إلى الأفكار الكاسحة والحكام القاطعة، و لذلك يتصرفون على هذا الأساس .
سادسا:الحوار والتوافق.إن الجزء الأكبر من هذه الحركات ترفض الحوار ولا تطيق التوافق مع الآخر والوصول على منتصف الطريق، سواء في الاقتصاد أو السياسة أو الفكر أو الفن أو الإجماع أو غير ذلك،لذلك سرعان ما تقفز على السنتهم عبارات المقلطعة و الرفض والتخوين ولكنهم سرعان ما يتراجعون عن ذلك إذا كانوا هم في السلطة كما كان في التجربة المصرية.
و بعد،فإن على الدولة أن تتفهم ما يواجهه الشباب فتضع البرامج المناسبة. وإن المراجعة والتراجع عن الخطاء في الفكر والسياسات والسلوك من الجميع بدون استثناء، ليس ضعفا ولا خطأ. ولا يمكن أن تبقى المنطقة العربية في حالة التوتر و الانقسام و الصدام الفئوي والحزبي و الطائفي والديني والمذهبي حتى تدمر ذاتها من الداخل فتخسر مستقبلها وتريح إسرائيل من مهمة تتمناها. نعم آن الأوان للجميع و لهذه التنظيمات والجماعات أن تتحرك خطوة إلى الأمام، وكما دعا الأزهر و دعت الكنيسة والمفكرون والعلماء والمثقفون ، وكل من هو حريص على مستقبل وطنه و شعبه، أن تتحرك باتجاه الوطنية والإنسانية بدلا من الأممية، والتوافق بدل الرفض،والحوار بدل العنف والمشاركة بدل المقاطعة. فذلك هو المستقبل.