القطاع العام وتحولات المستقبل

تسعى الحكومات المتعاقبة، ومنذ سنوات تزيد على العشرين، إلى تطوير القطاع العام وتحديثه وترشيقه، كما يقولون، ورفع مستوى الأداء وزيادة الكفاءة وسرعة الإنجاز. ومع هذا، فإن الشكوى الرئيسية للمواطنين العاديين وللمستثمرين وأصحاب الأعمال هي تلك التعقيدات التي، رغم الأتمتة ورغم شبكات الإنترنت والتحولات الرقمية، ما تزال تستنفد الوقت والجهد والفرص والكلفة الاقتصادية الباهظة. ففي اللقاء المتميز لوزير الصناعة والتجارة المهندس يعرب القضاة مع رجال الأعمال يوم السبت الماضي، كان واضحا عزم الحكومة على التغيير والتحديث. وكان التركيز من الحضور على ثلاث مسائل رئيسية الأولى: البيروقراطية التي تعطل وتعيق أعمال المواطنين، بل وتنفر المستثمرين سواء كانوا محليين أم أجانب والثانية: عدم الاهتمام الكافي بالمستثمر الوطني وضعف فرص المشاركة المتاحة له رغم تمتع الأردن بثروة بشرية متميزة من العقول والمهارات وأصحاب الأعمال. والثالثة: غياب نشوء وتنامي الشركات المساهمة العامة الجديدة والتي يمكن أن يساهم فيها صغار المدخرين لتنطلق في انشاء مشاريع إنتاجية وخدمية جديدة وخاصة في المحافظات. تلك مسائل تتردد على الألسنة باستمرار وفي الكتابات بل وفي التوجيهات والرسائل والأوراق الملكية منذ سنوات. والسؤال لماذا سبقنا في هذا الأمر الكثيرون مثل سنغافورة وماليزيا ودول الخليج، بحيث أصبحت تلك الدول جاذبة لكل مسستثمر من داخلها أو خارجها.؟
بالنسبة للبيروقراطية فإن اقترابنا من معالجتها قد يكون غير مناسب بدليل عدم حدوث التغيير المنشود. وتكمن المشكلة كما يؤكد الكثير من الخبراء في أن محاولات الإصلاح والتطوير غالبا ما تركز على الشرائح العليا في الجهاز الإداري وتغفل الجسم الحقيقي للإدارة الذي يمثله جميع الموظفين على مختلف مواقعهم ودرجاتهم. هذا من جهة، ومن جهة ثانية، تلجأ الحكومات إلى التغيير الظاهري مثل: تغيير اسم المؤسسة، أو اسم الوظيفة، أو فكفكة المؤسسة الواحدة إلى مؤسسات وهيئات عديدة، أو دمج الوزارات أو إلغاؤها دون الدخول في عمق العمل ذاته.. ومن جهة ثالثة يتجه التطوير إلى التعميم والنظر الى جهاز الدولة وكأنه مؤسسة واحدة فتهرع الإدارات الى تغيير الأنظمة والقوانين ولكن الجسم الفاعل يبقى كما هو.
وهذا يقودنا إلى ضرورة التأكيد على عدد من النقاط على النحو التالي: اولاً: التوقف عن التغييرات الشكلية والظاهرية كالأسماء أو الفكفكة أو الدمج أو الالغاء. فهذه كلها لا تحدث أي فرق في الأداء والكفاءة يمكن يشعر به متلقي الخدمة.
ثانياً: إن دوائر الدولة ومؤسستها تختلف الواحدة عن الأخرى من حيث نوعية العمل 
وثقافة التخصص القطاعي وطبيعة المشكلات ومتطلبات العلاج ووسائل الاستجابة لطلبات المواطن. فالمطلوب من موظف وزارة التربية والتعليم يختلف تماماً عن المطلوب من موظف وزارة الزراعة أو دائرة الجمارك أو وزارة الطاقة وان كانوا يشتركون في عمومية كونهم موظفي قطاع عام. وهذا يتطلب أن يكون التطوير مصمما لكل مؤسسة أو دائرة بذاتها وحسب طبيعة العمل والتغيرات العلمية والتكنولوجية والتوجهات المستقبلية للعمل، ابتداء من المهارات وتدريب الموظف، مروراً بأخلاقيات الوظيفة ومضامين مدونة السلوك، وإنتهاء بقياس وتقييم الإنتاجية والأداء. إضافة إلى اختلاف الدوائر في المشكلات التي يعاني منها متلقي الخدمة.
ثالثاً: ان المطلوب أن تقوم الجهة المكلفة بإعداد برامج تطوير القطاع العام، و التي ينبغي أن تكون موسسة وطنية على إلمام معمق بالتفاصيل الاقتصادية الثقافية الاجتماعية للمجتمع، تقوم بتحديد كافة المشكلات والعقبات التي يعاني منها المواطن، من خلال استطلاعات موضوعية حتي يتم التعرف على «جوهر الأزمة» في كل قطاع وكل مؤسسة بذاتها تمهيدا لوضع برنامج التطوير لتلك المؤسسة.
رابعاً: ان الجزء الأكبر من موظفي المؤسسات يلتحقون بالعمل بناء على مؤهلاتهم الدراسية من شهادات أو دبلومات، في حين ان كل مؤسسة تتطلب مهارات وثقافة وإطارا تفكيريا وممارسات مختلفة عن غيرها. وهذا يستدعي أن يكون لكل قطاع أو وزارة مركز تأهيل متخصص لها وبأعمالها ليكون التأهيل قبل الالتحاق بالعمل وخلال فترات متتالية.
خامساً: ان الترقية الوظيفية يجب أن ترتبط بدورات تأهيل وتمكين بما في ذلك التكنولوجيات الجديدة حتى يخرج الموظف من عقلية « الأقدمية» الى عقلية العلم والمهارة الجديدة والتحديث والتطور والمستقبل.
سادساً: ان شراكة  القطاع العام مع القطاع الخاص ما تزال غير متحققة كما أكد معظم رجال الأعمال، في حين أن مثل هذه الشراكة من شأنها تحسين أداء جميع الأطراف.
سابعاً: ان المستثمر المحلي هو العمود الفقري للاقتصاد الوطني وللتغير الاجتماعي، الأمر الذي يستدعي أن تبحث المؤسسة الرسمية عن المستثمر والممول الوطني اولا وليس الاعتماد على القروض والمنح والاستثمار من شركات دولية مع الاحترام.
ثامناً: ان إنشاء شركات مساهمة عامة للمشاريع الجديدة وبدفع حكومي أمر بالغ الأهمية. فالمواطن الذي يدخر جزءا من دخله يبحث عن فرص لاستثمار هذه المدخرات المتواضعة، وليس أفضل من الشركات المساهمة العامة التي تشارك بها مؤسسات حكومية وجمعيات تعاونية ورجال أعمال ومواطنون. 
واخيراً فإن معدل النمو الاقتصادي لدينا ما يزال متواضعاً جداً، ولا ينبغي الركون والاطمئنان الى تقارير البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي المشجعة، فتحفيز النمو الاقتصادي مسؤولية الدولة اولا وأخيرا، ويتحقق فقط من خلال المشاركة الفاعلة للقطاع الخاص الوطني، وللمواطن بكل ما لديه من علم ومهارة، ومن خلال التجاوب الحقيقي لجهاز الدولة كما يمثله الموظف العام.