يتوالى عقد المؤتمرات والندوات و إصدار المقالات والدراسات الواحدة بعد الأخرى بهدف الإجابة على سؤال محدد: “ ما هي قوة الجذب الكامنة لدى الجماعات المتطرفة التي تجعل الشباب ينقاد إليها وينضم إلى صفوفها ويتعرض للموت خلال عملياتها” ؟. ولا خلاف اليوم على أن “جاذبية” التطرف والإرهاب مركبة ومتعددة المكونات. إنها سلسلة متداخلة من العوامل والمفردات التي يغلفها غطاء عقائدي ديني في حالة التطرف السائدة. و تبدأ بالتركيب النفسي للفرد، فالظروف الخاصة به، ثم الفضاء الفكري والثقافي والإيمان الديني ،و مروراً بالأوضاع الاجتماعية الإقتصادية والإغراءات المالية وحالة الإقصاء والتهميش أو الإنعزال التي قد يعاني منها، والرغبة في الظهور و الإحتجاج والإستفزاز والبطولة من خلال مساندة مجموعة أو تنظيم يشعره بالقوة والقدرة على المغامرة، ويدفعه إلى العدمية وغياب الشعور بالمواطنة ،لتتأجج لديه الكراهية والحقد وطلب الانتقام، و انتهاء بالتدخلات الإقليمية والدولية. هذه السلسة بحلقاتها الكثيرة قادرة على اجتذاب الشباب حسب الأوضاع الخاصة وحسب التركيب الذهني والثقافي والعقائدي وحسب البنية النفسية لكل شاب في حينه. فالمتدين تجذبه الحلقة الدينية ويتخيل انه في طريقه إلى الجنة وليس الموت. والعاطل عن العمل تجذبه حلقة الإغراء المالي، والمغامر تجذبه المغامرة ومظهر القوة والعنف ، والحاقد على المجتمع تجذبه حلقة الحقد والكراهية و الدسيسة والمؤامرة، وهكذا. ورغم ملايين الضحايا و انهيار الدول، فلا يزال هناك تردد كبير عند الحكومات وعند المثقفين الإسلاميين وعند رجال الدين للمشاركة والمراجعة والخروج من رؤى الماضي إلى واقعية الحاضر و متطلبات المستقبل . فأحد الكتاب ذو التوجه الإسلامي يؤكد أن كل ما تقوله داعش من فتاوى هي من الإسلام، و يقول “ إنهم يعتمدون على سلسلة فتاوي صدرها علماء على مدار التاريخ الإسلامي، كلها تصب في اتجاه تكفير كل تلك الطوائف والأقليات التي خرجت من عباءة الإسلام وبالتالي استباحة دمها واستحلال أموالها ونسائها وربما استرقاقهم .وهذا كما يقول الكاتب الإسلامي فقه ليس خاصا بداعش بل هو فقه إسلامي صميم حيث تمتلئ كتب أهل السنة بفتاوي تكفير معظم فرق الشيعة والدروز والبهائية والنصيرية والازيدية الخ. ولكن المطلوب “ قراءة جديدة … وفتاوي جديدة بعكس ذلك “ . وهذا يعني أن الطريق لمواجهة الإرهاب وتجفيف منابع التزويد البشري للمنظمات الإرهابية يتطلب بالدرجة الأولى مباشرة الدولة للإصلاح السياسي و الإقتصادي و إعادة الإعتبار للعلم والتعليم والفنون والثقافة، والثانية تقطيع حلقات هذه السلسلة من النقاط المشتركة و رفع الغطاء الديني عن كل ماهو مخالف للقانون والأخلاق والقيم الدينية و الإنسانية. فكل ما يقبله الشباب ويفعلونه يتم تغليفه بغلاف الإسلام والسيرة و آراء الفقهاء. فيقال لهم: هذا مجتمع كافر لذلك نحاربه، وذلك مجتمع مرتد لذلك نسبي نساءه، وثالث فئة فاسقة و جب قتلها، ورابع مفسد وخامس خارج عن الشريعة لذلك نعيده إلى الطريق القويم بالقوة، وسادس لا يحكم بما أمر الله فنفرض عليه الحكم الشرعي، وسابع لا يؤمن بالخلافة وثامن لا يدفع الجزية وتاسع لم يعلن إسلامه فأمواله ونساؤه غنائم حلال للمسلمين وهكذا. إن الهروب من مسؤولية رفع الغطاء الديني عن كل هذه الأعمال ،لا يعني سوى استمرار الحالة، و إطالة زمن التطرف والإرهاب . ويرافق رفع الغطاء الديني توجه الدولة نحو الإصلاح الجاد والمشاركة الفاعلة والديمقراطية ويرافقه كذلك إنشاء المشاريع “ وخلق مناخ تنموي حقيقي “ يصلح أن يفتح نافذة المستقبل. هل يعقل أن يبقى مستقبل الإنسان و المجتمعات والدول في هذه المنطقة المأزومة مرهونا بفتاوي مر عليها مئات السنين؟ و مرهونا بقراءات لهذه الجملة هنا أو هناك من هذه المجموعة أو تلك؟ هل يعقل أن تتردد الدول ويتردد رجال الدين بإبطال الفتاوي السابقة والآراء الماضية التي تتيح القتل والسحل والسبي والرق و المخالفة لروح الدين و قيمه السامية بينما المئات من “ المواطنين” “ الأبرياء” يقتلون كل يوم ؟ هل يعقل أن تتردد الدول ويتردد رجال الدين في اعتبار كل ما صدر في الماضي من “تكفير” و “تفسيق” و “تشريك” لهذه الفئة أو تلك أمرا قد انتهى و لم يعد قائما أو موضع بحث؟ و هو اليوم باطلً وغير مقبول و مخالف للقانون؟ هل يمكن اعتبار كل ذلك جزء من التاريخ، ويحذف بكامله من التعليم والثقافة و ا لإعلام؟ لتحل محله مفاهيم الوطنية والمواطنة و المساواة والدستور والقانون ويتم تدريس ذلك في المدارس والجامعات ونشره في وسائط الإعلام . قد تنتهي داعش بعد شهر أو سنة أو بعد عقد ولكن الأساس الذي أتاح لداعش النجاح وهو “ الغطاء الديني الزائف وغطاء الفتاوي القديمة “ سيعطي الفرصة لأي تنظيم آخر أن ينشأ من جديد وتحت مسمى جديد ليقتل الناس من جديد” . وبذا يدخل العرب في الدوامة من جديد . ذلك إن القوى المتطرفة التي تقوم بالقتل والتدمير في سوريا والعراق واليمن وليبيا وسيناء ومصر هي مجموعات الأفراد والتنظيمات التي لا تؤمن بانتمائها للوطن ولا تعترف بالدولة اليوم و غدا و بعد سنين. وهكذا، في دهاليز التردد و ترحيل الإصلاح، يتفتت الحاضر و يضيع المستقبل العربي.