لم تشهد المنطقة العربية، و ربما العالم ،انفجارا لظاهرة التطرف و الإرهاب على إفتراضات دينية، كما شهدتها في السنوات الثلاثين الماضية،إبتداء من “القاعدة” و انتهاء “بداعش”. و لم يأخذ أي تنظيم متطرف اهتماماً كما أخذ داعش، ولم يحط الغموض بتنظيم أو جماعة كما احاط به. فقد تغاضت الولايات المتحدة و بعض الدول الأوروبية،و تركيا وبعض الدول العربية في البداية عن الجماعات الدينية المتطرفة، إنطلاقا من نظرية مفادها “أنه يمكن استخدامها كأدوات سياسية، و شن حروب بالوكالة ،كما يمكن السيطرة عليها من خلال التمويل و المعلومات و اللوجستيك”. وكانت تجربة “القاعدة” ضد الإتحاد السوفياتي نموذجا.و تعمقت إسرائيل على وجه الخصوص بدراسة هذا النموذج على أمل الإفادة منه أو إعادة إنتاجه في المنطقة العربية يوما ما. و بذا اشتد تدفق المتطوعين أو المرتزقة، و الأسلحة و المعدات و الآليات غلى هذه الجماعات،و في كل مكان. إلا ان توسع المناطق التي سيطرت عليها هذه الجماعات و انفلاتها و وحشيتها، كل ذلك غير ببطء من مواقف تلك الدوائر والدول التي امدتها بالمال و السلاح. و على الرغم من أن الأصول والبدايات يظن بأنها من “القاعدة”، إلا أن تصريحات هيلاري كلنتون حين قالت “نحن خلقنا داعش”أضاف الكثير من الشكوك، خاصة أن انطلاقة التنظيم وقوته وعلاقاته السياسية والعسكرية بقيت مبهمة تماماً، كما أن سرعة سيطرته على أجزاء كبيرة من العراق وسوريا واتخاذه عاصمتين الموصل والرقة كل ذلك تم وكأنه عاصفة.
لم يتبين للكثيرين بوضوح كيف تطورت ظاهرة الإرهاب و التطرف و بوجه خاص الداعشية ،وكيف أصبحت لها أذرع في العالم وبأي سرعة تحققت. كما أنه ليس هناك من اجابات مقنعة حول التمويل والتدريب والتسليح والتزويد بالمعدات والآليات لأكثر من ثمانين فرقة و تنظيم و جماعة تعمل في مساحات شاسعة من الدول العربية.
اليوم و في إطار الهزائم التي لحقت في عدد كبير من هذه الجماعات و خاصة داعش إضافة فإن المآلات والنهايات تبدو غامضة .أين القتلى و الأسرى منهم؟ ؟أين المعدات التي كانوا يتحركون بها؟ هل يعقل أن تلك التكنولوجيا المتقدمة لدى روسيا والولايات المتحدة و حلفاءها لا تستطيع أن تكشف تحركات مجموعاتهم وأفرادهم حتى عند انهزامهم؟ وهل يعقل أن لا تكتشف مواقعهم الإلكترونية على الإنترنت من خلال مواقع التواصل الاجتماعي التي يطلعون بها على الناس ويجتذبون بها الشباب المغرر بهم.
يرجع الباحثون جاذبية التنظيمات المتطرفة و الارهابية إلى أسباب موضوعية أهمها حالة الاحباط والبطالة والتهميش لدى الشباب، أو رغبتهم في المال كمرتزقة أو المغامرة أو انخداعهم بالمقولات الدينية وكذلك الظروف السياسية للعراق بعد الاحتلال و”أزمة السنة”. حيث جرى اقصاء السنة وتهميشهم وبرزت الطائفية والتدخل الايراني. ولكن كل ذلك، وخاصة ازمة السنة، لا تفسر تلك الوحشية المفرطة التي طلعت بها داعش على المدنيين قبل العسكريين. ولاتفسر ما فعلوه بالايزيديين والمسيحيين،و ما دمروه من معالم حضارية في الموصل وتدمر. و كذلك لا تفسر سبي النساء ونكاح الجهاد وقتل الابرياء المدنيين بالمئات و تجنيد الاطفال.
كيف استطاعوا أن يجتذبوا متطوعين من مختلف الأقطار العربية ومن أوروبا وروسيا؟ ولماذا كان يتدفق عليهم المئات والآلاف من كل اتجاه. ولماذا وقفت بعض الحركات الاسلامية موقف المؤازر أو المنتظر لدرجة أن احد قادة الاخوان المسلمين رفض أن يصفهم بالارهابيين بدلاً من الادانة الكاملة للارهاب الداعشي؟ واذا كانت الازمة السنية هي المفصل لماذا لم يسلم من القتل والتدمير والاعدام لا سني ولا شيعي ؟ لا مسيحي ولا ايزيدي؟ وماذا عن سوريا؟ وماذا عن ليبيا و سيناء و اليمن؟ أم أن هذه المجموعات تسير على خطا سيد قطب فتجعل كل من ليس عضوا فيها كافراً جاهلياً يستحق القتل؟ وهل يمكن لجماعة أن تصعد من الصفر إلى القمة خلال 6 سنوات ويكون لديها فقه وفقهاء وفكر ديني؟ أم أن كل ذلك منقول عن آخرين، أم هم واجهة لمجموعات أخرى.؟
هناك عناصر أربعة لا بد من النظر فيها اذا كان التفكير سيمتد إلى نهايات حقبة التطرف و الإرهاب. وهذه العناصر هي “الايديولوجيا والتنظيم والتمويل والبيئة الحاضنة“. أن تكون اصول هذا المجموعات من القاعدة فهذا يفسر موقفها الدموي من الآخرين ومن كل شيء باعتبار “الآخرين” في قسطاط الكفر كما كان يقول ابن لادن. وأن يأتيها المقاتلون من كل مكان فهذا يكشف وفرة المال المتاح امامها ومتانة شبكة الاتصالات والتواصل. وهذا لا يتحقق دون تدخلات دولية ودوائر المخابرات لدول عديدة لكل منها اهدافه وغاياته وفي مقدمتها اسرائيل.ذلك ان “جيش” الارهاب بعباءته الدينية يمثل ارخص الحلول لإسرائيل لتدمير الدول العربية ،وارجاع المجتمع العربي عشرات السنين إلى الوراء.
أما البيئة الحاضنة فهي الخطر الحقيقي عند خط النهاية .فتلك البيئة قادرة على توليد تنظيمات مشابهة في أي فترة قادمة. بمعنى أن داعش التي انتهت أو على وشك هي “داعش التنظيم القتالي” وليس داعش”التنظيم السياسي الايديولوجي” الذي لم يكتشف بعد. أن البيئة الحاضنة التي تمتد من حالة التغاضي إلى التعاطف إلى التأييد تقوم على خلفيات لابد من مراجعتها. فالسنين الطويلة منذ اوائل الستينات وحتى اليوم لم تشهد كل من العراق وسوريا واليمن وليبيا سوى القمع والقتل والسجن والاقصاء والاخفاء على ايدي انظمة قمعية واجهزتها. اين تذهب مشاعر من كان اقرباؤهم أو اصدقاؤهم أو اخوانهم أو اباؤهم ضحايا لهذه الانظمة. أنها تذهب إلى ثنايا المجتمع على شكل حقد دفين وقسوة متوحشة ورغبة في الانتقام والثأر يوماً ما . أما الغلاف الديني فهو الأكثر جاذبية والاصعب مواجهة. ولذا عمدت الدوائر الاستخبارية على تعزيز هذا التوجه ونشر ثقافة القتل واستعمال المصطلحات التي لا يجرؤ احد على مناقشتها مثل “حكم الله” و”الخلافة” ودولة الاسلام و”الأمام” و”ولي الأمر” بل واطلق اعلاميو تلك الدوائر مصطلحات تضع “الاسلام” بدلاً من المسلمين فأصبحت الصفات تلصق بالدين وهو منها براء.
وهذا يستدعي أولاً: الإصلاح السياسي و الديمقراطية و المواطنة و الشراكة الحقيقية. ثانيا: تخليص الدين من الافكار والتفسيرات التي الصقت به، ولا يتم ذلك إلا من خلال التوافق المعلن ومن اكبر المؤسسات الدينية على اعادة تعريف المصطلحات المستخدمة ونقلها من مصطلحات تاريخية تعود لعهود ما قبل الدولة والوطن والقانون والنظام والدستور والمؤسسات إلى العصر الحديث بكل مكوناته. وهذا لن يتعارض ابدأ منع الجوهر الحقيقي للدين.. ثالثاً: إن الايديولوجيا المتطرفة لا يقضى عليها ويواجهها إلا الفكر التنويري والعقل العلمي و العقلانية و الفنون والثقافة الراقية والتي ينبغي كلها أن تكون جزء من التعليم والتربية والثقافة والنشاطات الشبابية والاعلامية والوعظيةرابعاً: تعزيز الانخراط الشبابي في المنظمات المجتمع المدني والأحزاب وانهاء “حالة المظلومية” التي تشكل نقطة الضعف الكبرى. خامساً: لا تنتهي المظلومية إلا بتنمية البوادي و الأطراف إقتصاديا و إجتماعيا ، وبانهاء الفساد وسيادة القانون والنزاهة والعدل والمواطنة المتكافئة والتعددية التي تنظر إلى الاختلاف انه اغناء وخصوبة.
هذا الطريق هو الذي يجعل مستقبل المنطقة قادراً على التخلص من الارهاب والتطرف بشكل نهائي.