لعل زيارة جلالة الملك إلى الهند تكون مدخلاً لتأمل التجربة الهندية بعمق وعقلانية، للمباشرة في تطبيق ما يتحدث عنه الجميع منذ سنين، ألا وهو النهوض الاقتصادي الحقيقي المستدام، الطريق الوحيد للخروج من عنق الزجاجة. هذه الدولة التي تمثل أكبر ديمقراطية في العالم، وتضم 1324 مليون نسمة، وسوف تتساوى مع الصين في عدد السكان خلال السنوات العشر القادمة، وتضم أكبر عدد من الشباب في العالم ، كيف تحولت الهند من دولة هامشية تستجدي المساعدات والمنح، إذ كانت لا شيء فيها الا الفقر والجوع والتخلف والبدائية؟، كيف تحولت الهند إلى سابع اقتصاد في العالم بين فرنسا وإيطاليا؟، ومن المتوقع خلال 30 سنة أن تصبح ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الصين، كيف نجحت في انتشال حوالي 530 مليون انسان من الفقر إلى العيش الكريم المقبول؛ فتقلص أعداد الفقراء خلال 40 سنة من اكثر من 850 مليونا إلى اقل من 270 مليون انسان معظمهم في الأرياف؟، وكيف تحولت الهند إلى مقدمة دول العالم في تكنولوجيا المعلومات، وغدت مركزا عالميا للإتصالات، وأصبح الخبراء الهنود محل طلب متزايد في أوروبا وأمريكا وكندا وغيرها؟.
سؤال واحد على طريقتنا الأردنية :كيف خرجت من عنق الزجاجة؟والجواب باختصار، كل ذلك تم» بتصنيع الإقتصاد والاعتماد على الذات، والتواضع الحكومي، والتقشف في الإنفاق، وتوظيف اللامركزية لتعزيز التنمية في الولايات، والانتاج المحلي لجميع السلع والخدمات» حتى وصلت معدلات النمو الإقتصادي في عدة سنوات الى 9% وتعدت في القطاع الصناعي 15%، واليوم هي 5.7%. لقد تحولت الهند من شبه قارة فقيرة في كل شيء، إلى دولة مصدرة للقمح والآليات والسيارات والكيماويات والأدوية وغيرها آلاف السلع، وبالتوازي مع التصنيع كان هناك الاهتمام بالزراعة والمزارعين وبالمشاريع الصغيرة، وعلى الرغم من أن الفساد هو واحد من مشكلاتها الكبرى، وتعترف الحكومة بذلك، إلا أنه في تناقص مطرد، وقد احتلت «الهند المرتبة 23 في العالم على دليل التنافسية العالمي لكفاءة الانفاق الحكومي».
كيف نجحت الهند في هذه المسيرة المعقدة لتحتل مكانة متقدمة في العلم والتكنولوجيا ويظهر علماؤها بشكل بارز في كل مجال؟ وكيف نجحت في الانتاج وفي تخفيض البطالة إلى 5.7% والوصول إلى نصيب الفرد من الناتج الحلي 1852 دولارا (و بالقوة الشرائية 7000 دولار )؟ التوجهات كانت واضحة في عقل الإدارات الحكومية ولدى العديد من الأحزاب، أولاً: الديمقراطية أساس النظام السياسي، فالهند لم تبتعد عن الديمقراطية منذ استقلالها عام 1947، ولم ترفع أي شعار يبرر الخروج عن الديمقراطية، والأحزاب فيها تتداول السلطة ورئاسة الدولة بالانتخاب المباشر لا فرق بين الأكثرية والأقلية: هندوسي أو بوذي أو مسلم أو مسيحي أو سيخ، فالجميع مواطنون والمواطنة والتسامح أساس القبول.
ثانياً :الإدراك العميق بأن العلم والتكنولوجيا والإبداع تمثل الطريق الوحيد لحل المشكلات ومجابهة التحديات. صحيح أن الهند تعتبر من أهم مراكز الفلسفة والتأمل والتفكير على مدى التاريخ، الا أن ذلك تم استثماره لكي يعزز من أهمية العلم والبحث العلمي والتعليم في عقل الدولة والمجتمع، فتم إنشاء الآلاف من الجامعات والكليات الجامعية والمراكز العلمية والتكنولوجية المتميزة على مستوى العالم، وفي مقدمتها معهد الهند للتكنولوجيا IIT وغيره الكثير، هذا إضافة إلى وجود هيئة علمية متميزة تساعد رئيس الوزراء والحكومة ويرأسها كبير العلماء.
ثالثاً: التصنيع حيث يشكل القطاع الصناعي 29% من الناتج المحلي الاجمالي وتمتد الصناعات الهندية في كل اتجاه ابتداء من الصواريخ والقنابل النووية وانتهاء بالصناعات الغذائية والملابس، ومن خلال التصنيع تم تغيير الجزء الأكبر من المجتمع الهندي بشكل جذري وادخال ثقافة الانتاج والتكنولوجيا، وتفككت المؤسسات الإجتماعية التقليدية لتحل محلها مؤسسات جديدة ومنظمات مجتمع مدني. رابعا : التجديد الإداري حيث تقوم الحكومات الهندية المتعاقبة كل فترة وأخرى بتغيير وتطوير الأنماط الإدارية في جهاز الدولة حتى تصبح أعلى كفاءة وأكثر جاذبية للمستثمر.
خامساً: الدور القيادي للدولة في الإقتصاد. ومع أن الاقتصاد الهندي هو اقتصاد حر وملتزم بقواعد التعامل الدولية، الا أن الدولة لم تتسرع في الخصخصة، ولم تتهرب أو تبتعد عن قيادة المسيرة الاقتصادية، بل راحت تركز دورها ليس فقط كمنظم للعمل وانما كشريك مع القطاع الخاص والأهلي في عملية التنمية.
سادساً: الإهتمام بالتعاونيات الزراعية والتسويقية والإستثمارية، فراحت الدولة تدعم قيام التعاونيات وخاصة في المناطق الزراعية والفقيرة لتمكين المزارعين وصغار الحرفيين والصناع من تسويق منتجاتهم دون أن يكونوا عرضة لاستغلال الوسطاء .
سابعاً: العلم والثقافة حيث تعمل الحكومة على توفير الكتب العلمية والثقافية بتكاليف زهيدة تتوافق مع امكانات ودخل المواطن الهندي من خلال إعادة طباعة الكتب العالمية وتوزيعها في الهند فقط.
ثامناً : اللجوء إلى التكنولوجيا البسيطة لتحسين الأداء وتلبية الإحتياجات،والاستعمال وخاصة في الأرياف والمراكز العامة، فقد اهتمت الهند في وقت مبكر بالطاقة الشمسية وتطبيقاتها، ونشر ذلك في المدارس والأرياف، وكذلك طاقة الرياح وغيرها من التكنولوجيات التي انعكست ايجابا على رفع مستوى المعيشة لملايين المواطنين.
إن الدروس التي يمكن تعلمها من التجربة الهندية كثيرة :إبتداء من تواضع الإدارة الحكومية في نفقاتها وتعاملها وإعلامها واعترافها بأخطائها، وانتهاء بشراكتها مع صغار المستثمرين لإنشاء المشاريع ،غير أن الدرس الأهم هو أن المساعدات لا تصنع إقتصادات وطنية، والمستثمر الأجنبي أو المحلي لا يغامر في بيئة إقتصادية هلامية، فاقدة الإتجاه، بعيدة عن الرعاية، وأن الدولة هي في صلب العملية الإقتصادية وليس متفرجاً محايداً، وأن التصنيع هو الذي سيصنع مستقبل البلاد، وأن الاعتماد على الذات هو المدخل الأساس، والعلم والتكنولوجيا والتعليم بمستوياته وتنوعاته المختلفة والإبداع هو العمود الفقري للتنمية الاقتصادية، وأن تواضع إمكانات الدولة لا يمنعها من أن تنفق على البحث العلمي والتطوير التكنولوجي، وتوجيه ذلك ليخدم الإقتصاد الوطني. فهل تكون الزيارة الملكية هذه المرة ..إشارة الانطلاق في الاتجاه الصحيح؟