هناك العديد من المسائل التي تشغل الرأي العام منذ فترات غير قصيرة، و يلفها الغموض دون اجابات واضحة عليها من المؤسسات الرسمية. ومن شأن هذه الحالة أن تفتح فضاء رحبا للاشاعة، و بيئة خصبة للتشكيك ،وبالتالي توسيع فجوة الثقة بين المواطن والدولة، في الوقت الذي نحن فيه بأمس الحاجة إلى تعزيز الثقة لا زعزعتها. و هذا يجعل مؤسسات الدولة رسمية كانت أو أهلية تواجه صعوبات كبيرة في التعامل مع المواطن من منطلق الثقة و المشاركة، وتوظيف المعلومة الصحيحة في الوقت المناسب وبالشكل الصحيح.
ومن منظور واقعي فإن العالم من أقصاه إلى أقصاه يعيش في عصر المعلومات والاتصالات الرقمية. و”الترجمة السياسية الاجتماعية لهذه العبارة ،أن المعلومات مهما كان نوعها يمكن أن تصل إلى اي انسان في اي نقطة على الارض. وبالتالي ،فإن عصر اخفاء المعلومات وحجبها أو إنكارها انتهى إلى غير رجعة”.
فإذا اخذنا مؤضوعين رئيسيين يشغلان الرأي العام وهما “الفساد “ و “الشركات الكبرى التي تساهم فيها الحكومة” ،نلاحظ أنه لا إجابات تقنع المواطن العادي ،ناهيك عن الخبراء و المختصين و القوى السياسية في عقلانية و مؤسسية التعامل معها . فالفساد يكلف الاقتصاد الوطني سنويا حسب تقديرات الباحثين من 6% إلى 10% من الناتج المحلي الاجمالي أو ما يعادل 240 دينارا إلى 400 دينار لكل مواطن. حسب أرقام 2015 . لماذا لا يتم الافصاح و الإعلان رسميا عن حالات الفساد التي ثبت قطعياً انها وقعت؟ و عن الإجراءات المتعلقة بهذا الثبوت؟ كذلك لماذا لا يتم الإعلان عن الحالات التي يتداولها الناس و لم يثبت وقوعها، بل وبرئ اصحابها ؟ وبذلك تساعد الدولة الجمهور على الخروج من دوامة الشك والاشاعة والتوقع. بل و الأهم من ذلك تساعد على وضع حد لتدهور القيم الفردية و المؤسسية التي تعود لتنعكس سلبا على الأداء الاقتصادي الاجتماعي للدولة.
ومن جانب آخر نجد أن الرأي العام غير مقتنع بما يجري مثلا في شركة الخطوط الملكية الاردنية ،التي بلغت خسائرها المتراكمة خلال السنوات الماضية عشرات الملايين من الدنانير،ولا بشركة الفوسفات التي بدأت بتراكم الخسائر بالملايين أيضا. كيف تم خصخصة هاتين الشركتين العملاقتين؟ لماذا تخسر هاتان الشركتان سنة بعد سنة؟ وخاصة الملكية منذ اكثر من 10 سنوات؟وهل هناك صفقات غير صحيحة؟ وهل هناك مساءلة للادارات عن اسباب التراجع والخسائر؟ و هل الطريق مسدود أمامها؟
ويقول الجمهور: ماذا تنتظر الحكومة حتى تتحرك؟ وهي التي تتابع اعمال هيئة مكافحة الفساد، كما تتحكم بتعيين إدارات تلك الشركات. كم سنة ينبغي أن تخسر الملكية الاردنية حتى تشعر الحكومة بالصدمة فتتدخل لمعرفة الأسباب الحقيقية وراء الخسارة ؟ هل هي فساد؟ ام سوء ادارة ؟ام عدم اهلية؟ ام غياب الخبرة؟ام تسرب كفاءات ؟أم الامتيازات التي أعطيت منذ سنوات ولم يعد لها مبرر للاستمرار؟وكذلك شركة الفوسفات، هل خسارتها بسبب الأسعار في السوق الدولي؟ أم الحمولة الزائدة من الموظفين؟ أم غياب المشاريع القبلية والبعدية والتي من شأنها أن توسع قاعدة الاستناد للشركة؟أم عدم تطوير أساليب العمل و تكنولوجيا التعدين ؟ذلك أن الاسعار الدولية المتاحة للباحثين تبين أن الهبوط خلال الفترة الماضية كان طفيفاً. ومرة ثانية يتساءل الجمهور من يملك الجزء الاكبر من الاسهم؟ ومن يقرر الادارة وطبيعة النشاطات وكم سنة تحتاج الحكومة حتى تقتنع أن اسلوب الخصخصة كان خطأ ونمط الادارة كان خطأ؟وأن عدم انخراط الشركة في مشاريع تصنيعية تساند المادة الخام كان خطأ؟ ثم يتساءل الجمهور لماذا يتحمل الوطن و المواطن تبعات هذه الخسائر والادارة غير الناجحة هنا وهناك؟ واليوم مع هبوط سعر سهم الفوسفات هل يمكن تصحيح ألأخطاء؟ و هناك عشرات الأمثلة و القضايا التي يبحث المواطن عن توضيحات مقنعة لها، ابتداء من عائدات الخصخصة ،و المنح، و انتهاء بالتهرب الضريبي، و ديون الخزينة غيرالمحصلة.
وعليه فقد يكون مناسبا وبهدف الوصول إلى حالة من الثقة المتبادلة بين جميع الأطراف أن تتخذ الحكومة عددا من الاجراءات في الإطار التالي:
أولاً: أن تصدر الحكومة قراراً بالإعلان من الجهات القانونية المختصة عن اسماء الأشخاص والمؤسسات التي يثبت عليها بشكل قطعي تهم الفساد ،أو سوء الادارة ،أواستغلال الوظيفة الخ والاجراءات التي تم اتخاذها اعتبارا من تاريخ صدور القرار. ثانياً: أن تكلف الحكومة لجنة من الخبراء لدراسة اوضاع الملكية واخرى لدراسة اوضاع الفوسفات بهدف التعرف على كيفية اصلاح كلا الشركتين بما في ذلك استدعاء “خبراء اجانب اذا اقتضى الامر” حتى تقر الحكومة برامج عمل تخرج الشركتين من هذه الحلقة المفرغة، تمهيداً لإصلاح شركات أخرى. ثالثاً: أن تكون هناك قواعد مهنية معلنة ،و مساءلة واضحة حول الاداء، لاختيار ممثلي الحكومة في مجالس الادارات لكي تضمن نجاح الاداء والذي يكلف غيابه الاقتصاد الوطني عشرات ملايين الدنانير سنوياً.كل ذلك بعيداً عن التنفيعات والاسترضاءات التي لا تضيف شيئاً إلا لأصحابها، و التي قال فيها المرحوم الراحل الملك الحسين يوما ما” أعطوهم و هم في بيوتهم، و اتركوا المواقع و المهام لأهل الخبرة و الكفاءة”.. رابعاً:وضع مدونة سلوك لمن يمثلون الحكومة في مجالس الادارة أو أي مؤسسة وطنية .خامساً: الغاء جميع الامتيازات المجانية والمنافع غير القانونية التي تم منحها للاشخاص أو للمؤسسات في الماضي سواء من الملكية الاردنية أو من الفوسفات أو غيرها باستثناء ما له علاقة بصميم العمل و الإنتاج. سادساً:تكليف لجنة خبراء خاصة لوضع أولويات المشاريع التكميلية التي يمكن أن تدخل فيها الفوسفات أو الملكية ،حتى تكون بمثابة جدار واق من الصدمات إزاء تقلب الأسواق العالمية.، و حتى يكون لمثل هذه الشركات الكبرى دور فاعل في تحريك الاقتصاد الوطني: و خلق فرص عمل جديدة بعد أن وصلت البطالة بين الشباب 30% .
وأخيراً فإن ثقة المواطن في الادارة والخروج من الأزمة الاقتصادية وتحريك الاقتصاد يتطلب من الحكومة الانتهاء من دور التوقع و الانتظار، و يستدعي المبادرة والانفتاح على المواطنين بالمعلومات والمبررات والبيانات، ويقتضي المبادرة الناجزة بإصلاح اوضاع الشركات والمؤسسات الكبرى، واخراجها من ظلام الخسارة المتكررة، وغير المبررة، إلى مستقبل فيه وضوح وانجاز وعائدات حقيقية، وثقة مستقرة.