من حيث المبدأ ان العدوان على الدول الآمنة المسالمة، قبل استنفاذ جميع الوسائل السلمية لحل النزاعات، أمر مرفوض أخلاقيا وإنسانيا وقانونيا. كما أن محاولات الدول الكبرى إنشاء مناطق نفوذ وإخضاع الدول الصغيرة لإرادتها يمثل استمرارا للعقلية الاستعمارية البغيضة، والتي كلفت العالم ملايين الضحايا.
ولعل ما حاولته روسيا قبل الحرب من جهود وعلى مدى 20 عاما لمنع انضمام أوكرانيا لحلف الاطلسي، والالتزام بالمعاهدة التي تقضي بحياد أوكرانيا، وبالتالي منع وصول الاسلحة النووية الى الحدود الروسية، لا يختلف عن ما قامت به الولايات المتحدة ازاء كوبا والاسلحة السوفياتية عام 1962.
ولكن مرونة الاتحاد السوفياتي آنذاك، وتراجعه عن إقامة قاعدة عسكرية متقدمة في كوبا، منعت الصدام المسلح بين العملاقين النوويين. في حين أن تعنت الأطراف اليوم والنوايا المبيتة لدى الحلف الأطلسي ضد روسيا، أدى إلى اندلاع الحرب على أوكرانيا.
ومن هنا يصعب التسرع بالحكم على نتائج الهجوم الروسي، والذي كانت تحضر له روسيا بكل جدية وعلنية منذ فترة. ومع هذا فلا بد من استيعاب الدروس التي تحملها الحالة الروسية الأوكرانية ومحاولة الإفادة منها:
اولا: إزدواجية المعايير الأوروبية الأميركية.
فاجتياح روسيا لاوكرانيا ليس أسوأ ولا أكثر عدوانية من اجتياح الولايات المتحدة الأميركية للعراق، ولا عن تدخلها العسكري في افغانستان. وانسياق جونسون عام 2022 وراء بايدن لا يختلف ابداً عن انسياق بريطانيا بلير وراء بوش عام 2003.
كما أن الدمار الذي الحقته أميركا وحلفاؤها في فيتنام والعراق وليبيا وسورية ويوغسلافيا وأفغانستان لم يقع مثله منذ الحرب العالمية الثانية، ناهيك عن الفظائع التي ارتكبتها بريطانيا وفرنسا
وايطاليا وهولندا وإسبانيا في افريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية إبان الحقبة الاستعمارية.
كما أن اغتصاب إسرائيل لفلسطين بترتيب وتمويل وحماية من بريطانيا وأميركا وفرنسا، واحتلالها للأراضي الفلسطينية والسورية واللبنانية، والوحشية والعنصرية التي تتعامل بها إسرائيل، حتى هذه اللحظة، مع فلسطين ومواطنيها في غزة أو الضفة الغربية أو داخل الخط الأخضر لم يتعامل بها الحكم النازي. ومع هذا فمهاجمة روسيا لأوكرانيا محل تنديد واستنكار شديد لدى الغرب، في حين ان جميع أعمال أميركا وحلفائها مسكوت عنها، ويختلق لها المبررات والاعذار في المجتمع الدولي.
كما أن ما تقوم به إسرائيل من قتل وتدمير وحصار متواصل لم يتوقف على مدى 75 عاما، وتغيير معالم الجغرافيا والديموغرافيا الفلسطينية لا يقابل إلا بالسكوت والتغاضي البريطاني الفرنسي الألماني، على خلفية الدعم الأميركي المتواصل.
ومن مهازل الصدف أن الرئيس الأوكراني زيلنسكي وضع تغريدة تأييد لنتنياهو حين كانت القوات الإسرائيلية تدمر البيوت والمدارس والمستشفيات وتقتل الأطفال في غزة.
ثانياً: حركة الدول. إذ تتحرك الدول وفق مصالحها فقط، بغض النظر عن الاتفاقيات والقانون الدولي الإنساني والتحالفات والصداقات وغيرها.
وحتى تتمكن الدول الفاعلة من ذلك، فلا بد من بناء عناصر القوة فيها. فأميركا غزت العراق دون تفويض دولي تماما كما هي روسيا. وكل من روسيا وأميركا لم يقيما وزنا للقانون الدولي أو الإنساني، تماما كما هي إسرائيل.
ومن هنا، فقد آن للأنظمة العربية أن تدرك أن المصالح الوطنية والعربية لا تتحقق من خلال النداء والاشارة إلى القانون الدولي،
واللقاءات الإعلامية والدبلوماسية، ولكنها تتحقق فقط حين تبني كل دولة قوتها الذاتية، و”يتوافق العرب على الخروج من عباءة الاجنبي الى عباءة عربية مشتركة”.
ثالثاً: خلخلة الأسواق.
إن الحرب الروسية الاوكرانية ستؤدي الى خلخلة قوية، ولأشهر طويلة، في أسواق رئيسية ثلاثة، أولها سوق الطاقة من النفط والغاز، خاصة وان دول الاتحاد الأوروبي تستورد من روسيا 25 % من احتياجاتها النفطية و41 % من احتياجاتها من الغاز وثانيها سوق المواد الغذائية وخاصة القمح والشعير والذرة والحبوب.
حيث تحتل روسيا الموقع الثالث على مستوى العالم في إنتاج القمح وبمعدل 86 مليون طن لعام 2021. ويعادل انتاج روسيا وأوكرانيا من القمح 25 % من الإنتاج العالمي.
وثالثها: سوق الأسمدة والكيماويات والمعادن حيث تحتل روسيا موقعا متقدما على مستوى العالم في هذا المجال. وهذه الخلخلة ستنتقل آثارها بقوة إلى قطاعات أخرى في مقدمتها النقل والسياحة والمشتقات النفطية والماكنات.
وستتأثر المنطقة العربية بشكل كبير بكل ذلك نظراً لاعتماد المنطقة المفرط على الاستيراد في كل شيء تقريبا.
رابعاً: الاعتماد الذاتي. تعيد الحرب الروسية الأوكرانية إلى الواجهة مسألة الاعتماد الذاتي، وضرورة التزام الدولة بتحقيق نسبة مقبولة لا تقل عن 50 % من الاعتماد الذاتي في الاساسيات وهي الغذاء، والدواء، والطاقة، وتمويل المشاريع. ذلك ان واحداً من العقوبات الرئيسية التي فرضها الغرب على روسيا تمثلت في التمويل، وخروج الشركات الأوروبية والأميركية العاملة في روسيا، وطرد روسيا من منظومة سويفت swift (جمعية البنوك العالمية للتواصلات المالية).
الأمر الذي سيجعل عمليات الاستيراد والتصدير عموما، ومع روسيا خصوصا، غاية في الصعوبة والبطء مما سيؤدي إلى مزيد من ارتفاع الأسعار في كل سلعة تقريبا.
خامساً: ارتفاع أسعار النفط. ان الحرب الروسية الأوكرانية والعقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي وأميركا وحلفائها على روسيا أدت الى تسارع ارتفاع الأسعار في النفط بشكل غير اعتيادي بكل الانعكاسات السلبية على النمو والتعافي الاقتصادي لمعظم دول العالم. وما لم تعوض الدول المنتجة للنفط الفرق،
وفي حدود 5 ملايين برميل يوميا فإن الارتفاع في النفط سيصل إلى مستويات غير مسبوقة، وسترتفع كلفة الإنتاج الصناعي
والزراعي والنقل، وستتأثر الشرائح الفقيرة والمتوسطة في المنطقة العربية خصوصا بهذا الارتفاع.
سادساً: التوافق عند الازمات ان التماسك والتوافق الذي اظهرته دول الاتحاد الاوروبي وأميركا، يجب أن يكون درساً للمنطقة العربية التي راحت تنهشها القوى الإقليمية، بسبب الولاءات الخارجية، والتبعية للقوى الدولية، وضآلة الاعتماد الذاتي، وانانية السياسيين، وعجز الدول العربية عن التوافق على موقف عملي موحد، حتى تجاه إسرائيل ازاء انتهاكاتها التي لا تتوقف للأماكن المقدسة وللحقوق العربية.
سابعاً: الطلبة العرب. يدرس في الجامعات الأوكرانية أكثر من 30 ألف طالب من مختلف البلاد العربية، منهم 3 آلاف طالب أردني. وغدا مصير هؤلاء الطلبة يتأرجح بين البقاء في دائرة الخطر، وبين الهجرة غير المرحب بها الى بلدان مجاورة، أو العودة إلى أوطانهم بكل الإشكلات الدراسية التي ترافق عودتهم.
ثامناً: القوات الروسية في سورية .لا يتضح حتى الآن إذا كانت القوات الروسية في سورية ستبقى على حالها، ام أنها سوف تنسحب جزئيا للمشاركة في الحرب ضد أوكرانيا. واذا انسحبت فهل هناك فرصة لإيران لكي تتوسع في المساحات التي تسيطر عليها في سورية؟.
إن احداً لا يستطيع ان يتنبأ بالفترة التي سوف يستمر فيها القتال. ولكن من المؤكد انها سوف تمتد لعدة أسابيع أو أشهر، خاصة وأن أوكرانيا مصممة على موقفها بالالتحاق في الاتحاد الأوروبي ومن ثم حلف الاطلسي رغم رفض عدد من الدول لذلك، وان دول الاتحاد وأميركا تزودها بغزارة بكل الدعم المادي والمعنوي والإعلامي والسياسي والاسلحة والتمويل.
وفي نفس الوقت فإن روسيا لن تتنازل عن هدفين رئيسين هما: إثبات وجودها كدولة كبرى معادلة لأميركا من جهة، وتحييد اوكرانيا من جهة ثانية.
هذا إضافة إلى اسقاط نظام زيلنسكي والاعتراف الأوكراني بالجمهوريات المستقلة ولكن بأقل الخسائر. انها مرحلة تدمير المفاصل وعض الأصابع قبل الجلوس الى مائدة المفاوضات. وسوف تمارس أميركا وأوروبا الضغط على الدول العربية البترولية لزيادة انتاجها من النفط لتعويض الإنتاج الروسي وزيادة انتاجها من الغاز لنقله إلى أوروبا.
إن أزمة الغذاء والتمويل والطاقة ستتفاقم في المنطقة العربية إذا طالت الحرب. ومن هنا فنحن في الأردن بحاجة ماسة إلى “خلية أزمة” من الخبراء والمفكرين بالتشارك ما بين القطاع الرسمي والقطاعات الأخرى لمتابعة ما يجري، واقتراح الإجراءات اللازمة. ولكن هل يلتقي الزعماء العرب للاتفاق على برنامج مشترك يخفف من الآثار السلبية للحرب الروسية الأوكرانية؟ تلك مسألة بالغة الأهمية، ولكنها بعيدة الاحتمال.