منذ بضعة أيام أطلقت الملكة رانيا العبدالله الاستراتيجية الوطنية للموارد البشرية ،والتي تتضمن اصلاحات جذرية في التعليم الأساسي والتعليم المهني والتعليم الجامعي. وأشارت وثيقة الاستراتيجية إلى مواضع الخلل العديدة التي ينبغي التصدي لها ،حتى يعود للتعليم الأردني تقدمه التقليدي ومكانته المتميزة ، و الأهم من كل ذلك ليأخذ دوره كمحرك فعال للنهوض و التقدم.
و قبل ذلك بأيام ،كان رئيس الوزراء الدكتور هاني الملقي، أطلق دعوته إلى «التحول من التوظيف إلى التشغيل» ،وأن يكون هدف الدولة والمجتمع، ليس مجرد البحث عن وظائف للعاطلين عن العمل والبالغين 14% من القوى العاملة ، و حشرهم في وظائف لا تضيف إلى الاقتصاد شيئاً ،بل تكون عبئا عليه، وانما يكون الهدف هو استثمار امكانات الباحثين عن عمل ومهاراتهم وابداعاتهم ،و خلق البيئة المناسبة لهم ليباشروا في إنشاء مشاريعهم، أو يلتحقوا بمشاريع جديدة، خاصة الشباب الذين يكونون أكثر من 30% من القوى العاملة. وبالتالي تشغيل هؤلاء في مواقع تحمل اضافات حقيقية عالية القيمة للاقتصاد الوطني .
كذلك تعرضت الاستراتيجية إلى موضوع التعليم المهني التكنولوجي، وضرورة التحول الطوعي الاختياري للطلبة ،ليس فقط ضعفاء التحصيل و إنما الأقوياء أيضا، من التعليم الأكاديمي إلى التعليم المهني .ذلك أن هرم العمالة قد أصابه تشوه كبير خلال الخمس و عشرين سنة الماضية. فبدلا من أن تكون قاعدته العريضة قوامها الفنيين و التكنولوجيين و العمال المهرة ،و رأسه من الجامعيين المبدعين ،أصبحت القاعدة ضئيلة و أعداد الفنيين في تراجع و أعداد الجامعيين في تزايد بأكثر مما يستطيع الإقتصاد أن يستوعب .ذلك أن النمط السائد لدينا هو أن أكثر من 80% من طلبة التعليم الأساسي يتجهون إلى التعليم الأكاديمي، و أقل من 20% يذهبون إلى التعليم المهني.هذا في حين أن النمط العالمي يتمثل في 50% أو 40% فقط يذهبون إلى التعليم الأكاديمي بينما يذهب 50% إلى 60% إلى التعليم المهني، ليشغلوا فراغات يحتاجها سوق العمل وسوق الانتاج ،وليخلقوا أعمالا إضافية و مبتكرة ،وفرص عمل جديدة. وهذا يعني انه خلال بضع سنوات ربما 6 سنوات اذا تم السير في تنفيذ الاستراتيجية بجد و مسؤولية وإبداع سيشهد الأردن تحولات حقيقية في نوعية الخريجين، سواء كانوا جامعيين أو ثانوية عامة .
والسؤال أو التحدي الذي يجب اٍلأستعداد له مع الخطوات الأولى لتنفيذ الإستراتيجية :أين سيذهب الخريجون الجدد من جامعيين و مهنيين؟ وهل يستطيع الاقتصاد الوطني البطئ النمو؟ ،حيث لا تتعدى نسبة النمو 3%، والمعتمد إلى حد كبير على الاستيراد (مستورداتنا 16 مليار دينار)؟ أن يستوعب الخريجين من المدارس المهنية التكنولوجية أو الخريجين الجامعيين ؟ و كيف يمكن أن يتحقق التشغيل إذا لم تكن هناك مشاريع إنتاجية جديدة ؟ و فق برامج مترابطة و مستندة إلى الميزات التنافسية للوطن؟
إن تجارب الدول الأخرى ( كوريا ، الصين ، ماليزيا ، سنغافورة ، ايرلندا …الخ) تبين بوضوح أن نجاح تطوير التعليم، ورفع مستواه والخروج به إلى الحداثة والتميز، وكذلك نجاح خطط التشغيل وتخفيض البطالة وبالتالي تقليص مساحات الفقر، ذلك النجاح كان متلازما بقوة مع برنامج وطني لتصنيع الاقتصاد ،والانتقال به من التجارة والاستيراد إلى التصنيع والتصدير.سواء كنا نتحدث عن الزراعة أو السياحة أو النقل أو الصناعة ،اوالخدمات الصحية أو التعليمية .و ما لم يكن موضوع تغيير بنية الإقتصاد هدفا واضحا للدولة يتحرك مع تحرك التعليم ،فلا يمكن للتعليم أن يتعرف على متطلبات السوق ولا أن ينخرط فيه، ولا حتى على المهارات المطلوبة . ونحن نلاحظ أن الدول المتخلفة إقتصاديا هي متخلفة في التعليم أيضا،في حين أن الدول المتميزة في التعليم و المتميزة في تشغيل القوى العاملة، سواء من حيث المهارات أو الأجور، هي ذاتها الدول الصناعية المتقدمة إقتصاديا. كما أن الدول المتميزة في الخدمات عالية القيمة المضافة هي أيضاً الدول الصناعية. سواء كنا نتحدث عن بلدان ضخمة كالولايات المتحدة الأمريكية ،أو بلدان صغيرة مثل سويسرا أو سنغافورة أو ايرلندا.
وهذا يعني «أن تحديث التعليم ،و توسيع التشغيل مساران لا ينفصلان أبدا عن تصنيع الاقتصاد وتفعيله».الأمر الذي يتطلب العديد من الترتيبات لعل من أبرزها ،»إضافة إلى الأساسيات المتمثلة في تأهيل المعلمين، و تطوير المناهج، و تحسين البيئة المدرسية،,و إعطاء مزيد و مزيد من الإهتمام للجانب التربوي، بما في ذلك الفنون و الرياضة و الفلسفة.و هذه الترتيبات أولا:التعجيل بإنشاء ثلاثة مراكز وطنية منفصلة عن وزارة التربية و التعليم و هي :مركز تأهيل المعلمين، و مركز المناهج و التأليف، و مركز الإمتحانات و التقييم. ثانيا :تطوير التعليم المهني ليصبح تعليما تكنولوجيا متقدما، جاذبا للطلبة و لذويهم على حد سواء.ثالثا:التوسع في التشبيك ما بين المدارس و المعاهد و الجامعات حتى تخرج من حالة الفردية إلى التشاركية في النشاطات و المساقات و المشاريع و الأبحاث و المتخصصين.رابعا: وضع البرامج الوطنية و بمشاركة فاعلة من الدولة لتعزيز الترابط و التشبيك ما بين المدرسة و المعهد و الجامعة من جهة ،و ما بين القطاعات الإقتصادية من جهة اخرى.فذلك ليس مسألة اختيارية ،بل شرط من شروط الإرتقاء بالتعليم و تحسين معدلات النمو الإقتصادي.خامسا :المباشرة بتنفيذ برنامج وطني للتحول الإقتصادي نحو التصنيع.سادسا إعطاء الإستراتيجية صفة شبه قانونية تجعلها ملزمة للحكومات المتعاقبة لتطبيقها.
إن تطوير التعليم و الخروج به من حالة التراجع، و تطوير مفهوم التشغيل، ليلتحم كلاهما موضوعيا و زمنيا بالتحول الإقتصادي، هو الذي يمكن أن يجعل المستقبل أكثر ازدهارا و أبعث على الثقة، و هذه مسؤولية وطنية مشتركة بامتياز.