يتجه الجزء الأكبر من طلبة المدارس إلى المسار الاكاديمي في الطريق إلى الجامعات، وبنسبة تتعدى 80% ،ويتبقى أقل من 20% يتجهون للتعليم المهني. ومع تراكم أعداد الطلبة الذين لم ينجحوا في الثانوية العامة والذين زاد عددهم في السنوات الأخيرة عن 300 ألف فتى و فتاة فإن المشكلة تتفاقم يوما بعد يوم. أين يذهب هؤلاء؟ ماذا يتعلمون؟ وأين سيعملون؟. و ماهي مستويات المهارات التي قد يكتسبونها؟ و ما هي فرصهم للإبداع في مواقع العمل؟ و من جانب ثان فإن العديد من القطاعات تشكو من نقص العمالة الأردنية الماهرة سواء في الصناعة أو الخدمات أو الزراعة ،الامر الذي يضطر الكثير من هذه المشاريع والشركات لطلب عمالة أجنبية. ومن جانب ثالث فإن العمالة الوافدة تنافس العمالة المحلية بشكل غير متكافىء سواء في الخبرات أو الأجور أو ساعات العمل.و هكذا فإن “مثلث العمالة و الإنتاجية و الإبداع” يعاني من خلل داخلي و خارجي. صحيح أن هناك “مراكز” تقدم دورات تدريبية متنوعة قد تمتد لعام كامل، ولكنها “في معظمها لا تستطيع أن تكون المرجع الكافي” في تكوين عمالة وطنية تكنولوجية متقدمة و متمكنة.
و بالمقابل فإن الحالة في الدول الصناعية مختلفة تماماً. اذ أن نسبة الطلبة الذين يتوجهون إلى التعليم المهني التكنولوجي في المدارس و المعاهد والجامعات هي في معظم الحالات أعلى من 65%. و هؤلاء يلعبون الدور الأبرز في نوعية الإنتاج و رفع الإنتاجية و تطوير المنتجات من خلال إبداعات في التفاصيل، و بالتالي زيادة القيمة المضافة للمنتجات.
وتدل تجارب الدول التي نجحت في بناء هرم عمالة متميز مثل سنغافورة و كوريا و ايرلندا واليابان و الصين و غيرها ،أن التحول نحو التعليم المهني التكنولوجي لم يتم تلقائيا، و لم يتحقق أبداً عن طريق رفع علامات القبول بالجامعات، ولا بتخفيض نسبة النجاح ،وانما من خلال سلسلة من العمليات والاجراءات الاجتماعية الاقتصادية والتثقيفية والتعليمية المتزامنة، التي تجعل الاقبال على التعليم المهني تلقائياً، وبدافع ذاتي من المتعلم ، وحافز اقتصادي من مؤسسات العمل ،و قناعة وتقدير من المجتمع. وهذا يعني أن الخروج من أزمة بطالة الجامعيين و التي تصل لدينا 68% بين الإناث 28% بين الذكور، و بالتالي تصحيح هرم العمالة، و تعزيز إمكاناته التكنولوجية و الإنتاجية ،يتطلب العمل على عدة محاور يتقدمها المحور الاقتصادي. إذ أن التعليم المهني التكنولوجي يتطلب اقتصاداً متحركاً ومتجها بوضوح و برمجة نحو التصنيع ،حتى تكون هناك فرص حقيقية تستوعب التعليم المهني التكنولوجي . وبالتالي فإن الدورالفاعل للدولة و الصناعات الكبرى و الأكاديميا يصبح شرطاً أساسياً للنجاح . وفي خلاف ذلك فإن البطالة ستتحول من خريجي الجامعات إلى خريجي التعليم المهني،و إلى مزيد من هجرة المهارات التكنولوجية الماهرة إلى الخارج، و زيادة الإعتماد على العمالة الوافدة.
والسؤال لماذا لما تستطع المدارس و المعاهد والتدريب المهني أن تحل هذه المشكلة حتى الآن؟ والاجابة على ذلك: انه في غياب مشاركة القطاع الخاص في معاهد وبرامج التـأهيل والتعليم ، و في غياب الإرتقاء بالمستوى التكنولوجي ،فإنه من غير الممكن للتعليم المهني الرسمي أو الأهلي أن يستجيب لمتطلبات السوق المتغيرة والمتجددة. ففي سويسرا على سبيل المثال هناك 58 ألف شركة تساهم في تعليم و تأهيل اكثر من 80 الف متعلم، وبمعدل انفاق سنوي يتجاوز 20 ألف دولار لكل طالب .وهذا يستدعي أن يعاد النظر في برمجة التعليم والتأهيل المهني وآليات تحقيقه لدينا في الاطار التالي: أولاً: أن يتحول القطاع الخاص بشركاته ومصانعه و مراكزه ومرافقه المختلفة تدريجيا إلى شريك حقيقي في برامج التأهيل والتعليم المهني. وتكون الشراكة مالية وعينية و معرفية و موقعية وبكل الوسائل الممكنة. ثانياً: أن يعاد توزيع و تصنيف تخصصات التعليم و التأهيل المهني حسب “النشاطات الاقتصادية القائمة و المتوقعة و المخطط لها” . ابتداء من الصناعات الكبرى مثل الصناعات الدوائية والفوسفات والاسمدة والجلود والتسويق والفندقة و الزراعة، و انتهاء بالصناعات التقليدية و الصغيرة. ثالثاً: أن تتولى الشركات المتوسطة والكبيرة ،و الإتحادات النوعية و غرف الصناعة ،أو تجمعات من الشركات الصغيرة المتقاربة احتضان مراكز تعليم مهني تكنولوجي متقدم في مواقع عملها، وبالتنسيق والمشاركة مع الوزارات المعنية بالتعليم و الصناعة والتعليم العالي والعمل. رابعاً: أن تباشر وزارة التربية والتعليم بإدخال مادة “الريادية ” بمستويات مختلفة ابتداء من السنة الدراسية السابعة وحتى السنة الاخيرة ،و كذلك الجامعات .و بذا يمكن لشعار “التشغيل وليس التوظيف” الذي ترفعه الحكومة، وهو صحيح، أن يتحقق من خلال اعداد الطلبة لمفهوم وفلسفة و مهارات التشغيل. ومادة الريادية مفيدة لجميع الطلبة بدون استثناء سواء التحقوا بالـتأهيل المهني التكنولوجي أو المسار الاكاديمي. خامساُ: أن تصحح الادارات الحكومية والمؤسسات المختلفة سلم الرواتب لتصبح مرتبطة بالجزء الأكبر منها بذات الوظيفة والمهمة، وليس بالشهادة الجامعية. سادساً: الشروع في برامج اعلامية وثقافية واسعة النطاق تبين أهمية العمل المهني والتكنولوجي من اجل اخراج الفرد والمجتمع من “شرنقة الشهادة الجامعية” إلى ساحة الانجاز والانتاج و الإبداع. سابعاً: أن تبدأ الحكومة بتنفيذ سلسلة من المشاريع بالتشارك مع القطاع الخاص والقطاع التعاوني ،حتى تخلق فرص عمل جديدة، وحتى تبعث الطمأنينة للمجتمع ازاء التوجه نحو التعليم المهني والتكنولوجي.
أن الوصول الى الهدف الكبير وهو تحريك الإقتصاد و رفع معدلات النمو فيه، و تعزيز القوى العاملة الأردنية الماهرة والمؤهلة، و جذب الإستثمار وتصحيح الهرم التخصصي ، و الخروج من أزمة البطالة و تواضع الإنتاجية و ضعف الإبداع، و اختناقات التعليم الجامعي، و بالتالي توسيع المساهمة في نهضة البلاد المستقبلية ، كل ذلك يتطلب العمل الدؤوب، والمشاركة مع القطاعات، والنفس الطويل، و التمويل الصحيح ،و القناعة النفسية و العقلية للمواطن. وهذه هي الترجمة العملية لاستثمار وتنمية الموارد البشرية.