في الذكرى الثالثة والسبعين لاغتصاب فلسطين من العصابات الصهيونية بتدبير لئيم من بريطانيا بالدرجة الأولى، ودعم استعماري من الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية، كان اليمين الإسرائيلي الصهيوني المتطرف وفي مقدمتهم بنيامين نتنياهو وليبرمان وغانتز يتوقعون الاحتفال بقيام كيانهم في 15 أيار، وقد سيطروا على القدس بالكامل، وتقاسموا المسجد الأقصى زمانياً ومكانياً. ولذا صعدت إسرائيل الضغط الإرهابي والعنصري على القدس وعلى الأقصى منذ أشهر، إضافة إلى تعجيل عمليات سرقة أراضي الفلسطينيين في كل مكان، وبشكل خاص بيوت المقدسيين في الشيخ جراح وغيره من أحياء القدس الشرقية. ولكن صمود الفلسطينيين في كل أنحاء فلسطين، وانطلاقهم في الانتفاضة الثالثة، وتكاتفهم في كل مكان، وتحرك قطاع غزة المحاصر منذ (15) عاماً، واستجابة فلسطينيي 1948، والمساندة الصلبة من الأردن قيادة وحكومة وشعبا، وتحرك الجميع لحماية المقدسات والمحافظة على عروبة القدس، كل ذلك أفسد التوقعات الصهيونية الخبيثة. فلجأت إسرائيل إلى سلاح المستعمر التقليدي المتمثل بالقتل والتدمير والاعتقال والتوقيف للنساء والأطفال والشيوخ بكل ما لديها من قدرات وبكل ما يناقض القانون الدولي الإنساني. وأعادت هجمتها الإجرامية على قطاع غزة بل وسائر المدن الفلسطينية بما يزيد على جريمتها على قطاع غزة العام 2014. وخرج نتنياهو وغانتس يتباهيان بما تقوم به إسرائيل من قتل وتدمير للمباني السكنية والمدارس والمستشفيات والبنية التحتية للقطاع، تحت ادعاء وقح وكاذب وسخيف وهو “الدفاع عن النفس”، وكأن قوة الاحتلال التي تمارس القتل والقهر والتعذيب والاعتقال اليومي للمواطنين على أرضهم لا تمثل حالة اعتداء متواصلة على الشعب الواقع تحتها.
لقد ارجع حديث نتنياهو العالم (80) عاما إلى الوراء حينما احتج أحد الصحفيين على سقوط آلاف القتلى في بولندا أبان الغزو النازي العام 1939، أجاب غوبلز “نحن ندافع عن أنفسنا ضد الإرهابيين البولنديين…” فرد الصحفي قائلا” ولكنكم تحتلون بلادهم يا سيدي” فقال غوبلز: “تلك مسألة سياسية لا تناقشني فيها الآن… المهم سلامة الألمان والجنود الألمان”. هكذا كشفت إسرائيل للمرة الألف حقيقة بنيتها وتفكيرها في العمق:” كيان عنصري متوحش بعقلية ألمانيا النازية”. لقد تقمص نتنياهو نفسية هتلر المريضة الحاقدة، وللأسف سارع بايدن الذي قتلت بلاده مليوني فيتنامي، وماكرون الذي قتلت بلاده مليون جزائري، والمستشارة ميركل التي قتلت بلادها (15) مليون روسي سارعوا إلى ترديد ذات العبارة: “إن إسرائيل في حالة الدفاع عن النفس”، متجاهلين أن إسرائيل تمثل حالة عدوان دائم وتقيم في أرض ليست أرضها، و”أن الفلسطينيين هم في حالة دفاع عن النفس منذ 100 عام.”
إن مواقف العديد من الزعماء في أوروبا وأميركا تتجاوب في أحيان كثيرة مع المواقف الإسرائيلية لأسباب رئيسية ثلاثة الأول: الخلفية الاستعمارية لتلك الدول بكل ما ارتكبته من جرائم ومذابح ضد السكان الأصليين وخاصة في إفريقيا وآسيا وأميركا. وستبقى هذه الخلفية مؤثرة لسنين مقبلة. الثاني: الأموال التي تدفعها المؤسسات الصهيونية للأحزاب ووسائط الإعلام وللسياسيين لتمويل حملات الانتخابات البرلمانية أو الرئاسية، إضافة إلى التغطية الإعلامية الواسعة في شبكات الإعلام التي يمتلكها يهود صهاينة. الثالث: الربط الزائف بين العداء للسامية، وهو عداء لليهود بصفتهم يهودا، وبين انتقاد إسرائيل. لدرجة أن بومبيو وزير الخارجية الأميركية في عهد ترامب أصدر قرارا بمنع الإعلام من الربط بين ما تقوم به إسرائيل وما كانت تقوم به ألمانيا النازية. الرابع: الضغوط الأميركية على الدول والمؤسسات الدولية، وفي مقدمتها مجلس الأمن، للتغاضي عن المخالفات والجرائم التي ترتكبها إسرائيل بغض النظر عن بشاعتها.
رغم كل ذلك فإن الرأي العام الأوروبي والأميركي يشهدان تحولات جذرية، والانتقال من السكوت على الأعمال الإسرائيلية الوحشية إلى رفض تلك الأعمال واستنكارها، والدعوة إلى انصاف الفلسطينيين بل مقاطعة إسرائيل. فخرجت المظاهرات لتأييد الفلسطينيين في جميع أنحاء العالم تقريبا. ولكنها تحوّلات تحتاج من الجانب العربي إلى مزيد من الجهد والوقت.
لقد أثبتت الانتفاضة الفلسطينية الثالثة انتفاضة القدس – غزة ومعهما اللد ويافا والخليل ونابلس والناصرة وأم الفحم ان التطبيع مع إسرائيل لا قيمة له لدى الشعوب العربية، وإن لا استقرار في المنطقة إلا بالحقوق الفلسطينية كاملة في الدولة والعاصمة القدس، وإن الشعوب العربية تحتضن في ضميرها ومشاعرها تحرير فلسطين، بغض النظر عن ما يفعله زعماؤها، وأن القوة الإسرائيلية قابلة للكسر حين تتوفر الإرادة والتضحية.
وهنا لا بد للدول العربية من استخلاص الدروس الصحيحة قبل فوات الأوان، لأن عجلة الصهيونية ما تزال تدور في فلسطين وفي أماكن مختلفة في العالم العربي، ويتوقع البعض أن تكون دبي أولى ضحاياها. أولا: بغض النظر عن المظاهر الدبلوماسية فإن إسرائيل لا تؤمن بالسلام وتمثل نموذجا متوحشا للدول الاستعمارية في القرن التاسع عشر، بكل العنصرية واللاإنسانية والأطماع في السيطرة على الأرض والتاريخ والجغرافيا. ثانياً: إن اليمين، وهو القوة المسيطرة على الشارع الإسرائيلي، يدير الألاعيب، ويحيك المؤامرات، ويستخدم الواجهة الأميركية للابتزاز بحقد وكراهية، للتخلص النهائي من الشعب الفلسطيني، والتغلغل السام في الجسم العربي كما نجح بذلك في أميركا. ثالثاً: إن المخطط الإسرائيلي الراسخ للتعامل مع المسألة الفلسطينية يقوم على تشتيت الشعب الفلسطيني من جهة، وتفتيت الوطن الفلسطيني إلى قطع أراض من جهة ثانية، واغتيال القيادات من جهة ثالثة، ودعم الانقسامات بالأموال، حتى يغيب مفهوم الشعب والأرض، وهما الأساس لأي دولة. رابعاً: العمل على تهشيم وتقسيم الدول العربية المجاورة، والحيلولة بكل الوسائل دون نهوض أي دولة عربية، وخاصة في الصناعة والتكنولوجيا المتقدمة لئلا تكتسب قدرات ذاتية تحولها الشعوب إلى قوة مضادة لإسرائيل. خامسا: إشاعة الفوضى والنزاعات في المنطقة من خلال استغلال الأديان والطوائف والإحباطات والبطالة والمظالم. سادسا: تحويل التجارة والنفط للدول الخليجية والعربية المحيطة بفلسطين من قناة السويس وخليج العقبة والخليج العربي إلى موانئ إسرائيلية على البحر المتوسط، من خلال منظومات أنابيب وشبكات سكة حديد تمتد من الخليج إلى البحر المتوسط. وبذلك تحكم قبضتها اللوجستية على الدول الخليجية والعراق والأردن. سابعا: التحكم في العالم العربي من خلال الابتزاز الأميركي الإسرائيلي من جهة والتفوق التكنولوجي الإسرائيلي وخاصة في الطاقة والمياه والزراعة والأسلحة والأمن السيبراني من جهة ثانية والتحالف مع القوى المضادة للحقوق العربية. ثامناً: التغلغل العميق في المؤسسات المالية العربية وخاصة الخليجية والسيطرة عليها بدعم من المؤسسات المالية الأميركية والأوروبية التي يسيطر عليها اليهود.
ومن هنا فإن صمود الشعب الفلسطيني على أرضه مهما كان الثمن، وجرأة المقاومة في التصدي لإسرائيل بعسكرها وقطعان المستوطنين، يمثل البوابة الرئيسية لإفشال المخططات الإسرائيلية. وهذا الصمود يتطلب العمل والدعم والمساندة المؤسسية الدائمة وليس “الفزعة”، بعيداً عن الوهم بأن الدول العربية في مأمن من الخطر الإسرائيلي. فالأطماع في الأراضي السورية واللبنانية والأردنية والمصرية والعراقية والسعودية لا يخفيها الزعماء الصهاينة. إن استمرار حالة التشتت العربي وبطء الإصلاح السياسي الاقتصادي في كل دولة عربية بذاتها يجعلها ضعيفة دائمة الاعتماد على الولايات المتحدة الأميركية وهذا ما تريده إسرائيل. إن انتفاضة الأقصى – غزة وحدت الشعب الفلسطيني
وأكدت فشل إسرائيل في تقسيمه إلى 4 أجزاء منفصلة، بما يقتضي ذلك من انتهاء الانقسام وتجديد القيادات، وتعزيز المقاومة على التراب الفلسطيني. كما يتطلب تحركا حقيقيا للجامعة العربية ومنظمات المجتمع المدني والبرلمانات العربية والمثقفين
والحقوقيين على الساحة الدولية. كما أكدت الانتفاضة وقوف الشعوب العربية بل والجزء الأكبر من شعوب العالم مع فلسطين، وبأن لا حل للقضية إلاّ بانتهاء الاحتلال، وإزالة الاستيطان وإقامة الدولة الفلسطينية على التراب الفلسطيني وعاصمتها القدس. إن الأوطان لا تسقط بالتقادم، كما توهم قادة الصهيونية، وان الأردن والعرب جميعاً سيكونون العون والسند للشعب الفلسطيني حتى النصر، والذي يتطلب الذكاء والقوة والدهاء والتضحية، والمؤسسية الدائمة وطول النفس، واستخدام شتى الوسائل المدنية والدبلوماسية والبرلمانية والقانونية والإعلامية والثقافية والفنية لوضع حد لهذا السرطان الخبيث إسرائيل.