يخلط البعض بيــن الصناعة كواحد مــن القطاعات الاقتصادية الرئيسة الثلاثة (الصناعة والزراعة والخدمات)، وبين الصناعة وضرورتها المطلقة لتغيير بنية الاقتصاد والانتقال به من “الزراعي–التجاري” إلى الاقتصاد الصناعي، وهو الانتقال الذي يمثل النهضة الحقيقية لأي مجتمع بما يحمل من تغيرات إنتاجية واجتماعية و ثقافية و تكنولوجية وعلمية عميقة الجذور. أما السؤال : هل الأردن بلد صناعة أم بلد خدمات؟ فإنه سؤال في غير محله أبداً لسببين : الأول : أن الصناعة و التصنيع ليس حالة ساكنة تكون عليها الدول أو لا تكون، وإنما هي قطاع و مرحلة تنمو و تتقدم و تتفوق من خلال برامج وطنية واعية لما تريد . والثاني : أن الخدمات ليس بديلا عن الصناعة أو نقيضا لها. فالبلد الصناعي، بالضرورة، لديه قطاع خدمات متطور. فأكبر البلدان الصناعية في العالم و هي الولايات المتحدة، يشكل قطاع الخدمات فيها 76.7% من الناتج المحلي الإجمالي، بينما يشكل القطاع الصناعي فيها 22.2%. وفي ألمانيا يشكل قطاع الخدمات 71.9% بينما القطاع الصناعي 27.9%. وفي اليابان قطاع الخدمات 75.7% والصناعة 22.8%. وحقيقة الأمر أن الدول المتخلفة هي التي تكون فيها نسبة قطاع الخدمات منخفضة فيعلو قطاع الصناعة بمقياس نسبي فقط. فقطاع الخدمات في اليمن 53% من الناتج المحلي الإجمالي ، وفي انغولا 24.6% للخدمات و65.8% للصناعة، وفي السودان قطاع الخدمات 38.9% بينما الصناعة 29% و هكذا. فأين المشكلة ؟؟ تكمن المشكلة في قيمة القطاع واتساعه وتنوعه ومستواه العلمي و التكنولوجي وليس في حجمه النسبي . ففي الدول الصناعية تكون القيمة المضافة في الخدمات مرتفعة جداً لإن كل جزء فيها قائما على الصناعة والتكنولوجيا المتقدمتين، بينما تكون في الدول غير الصناعية قيمتها متدنية لأنها إما بسيطة و إما مستوردة . فقيمة الخدمات لكل فرد أمريكي في عام 2014 هي43384 دولارا وفي ألمانيا 34301 دولار وفي اليابان 25953 دولارا أما في الأردن فهي 3420 دولارا أي أن قيمة الخدمات في الدول الصناعية الكبرى تعادل (10) أضعاف قيمتها في أي بلد غير صناعي كالأردن أو (15) ضعفاً في بلد كالسودان . وهذا يعني أن المطلوب ليس تخفيض الصناعة و إهمالها أو الاستخفاف بها، و لا زيادة الخدمات هكذا على علاتها، وإنما المطلوب زيادة قيمتها الحقيقية، ولا يتحقق ذلك أبدا و قطعا إلا من خلال التصنيع أو وفرة الأموال من مصادر أخرى. إن تكرار تجربة دبي التي تقوم على الخدمات وعلى مراكز صناعية ومالية دولية ليست متاحة في بلد تنقصه الأموال والثروات الضخمة. فالسياحة، والرعاية الطبية، والتعليم العالي، والاتصالات، والتكنولوجيا، والرياضة الدولية، وغيرها، كلها خدمات تتطلب الآلات والمعدات والأجهزة والمواد والبرمجيات وأشياء أخرى كثيرة. وفي الدولة غير الصناعية يكون الجزء الأكبر من هذه المستلزمات مستوردا ، ولا يتبقى في البلاد إلا العمالة، ولذلك فإن قيمتها في زيادة الناتج المحلي تكون متواضعة. إن الصناعة الوطنية من شأنها أن تعمل على إنتاج مستلزمات الخدمات وبيعها كخدمات وصناعة، وبذلك تأخذ الخدمات قيمة أعلى وهو المطلوب و الذي تتميز به الدول الصناعية. وعليه فإن توجه الدولة نحو تصنيع الاقتصاد الوطني ودعم قطع الصناعة، والتوسع في الإنتاج الصناعي، والبناء على الصناعات الكبرى لإنتاج صناعات أمامية وخلفية، كل ذلك هو في الاتجاه الصحيح وهو المطلوب . و من جانب آخر، فأن اعمار الأراضي الأردنية، وتنمية المحافظات وتطوير الزراعة، وإنتاج الغذاء، وتطوير المواقع السياحية والانتقال إلى التعليم العالي القائم على البحث والتطوير والإبداع و الإختراع والمهارات المهنية المتميزة، كل ذلك لا يتحقق إلا من خلال المجتمع الصناعي الذي تدخل الصناعة فيه في كل زاوية و يتم فيه تصنيع مختلف القطاعات. هل كانت كوريا و سنغافورة و ماليزيا والصين و تايوان دولا صناعية قبل 50 سنة؟ من كان يتوقع قبل (30) سنة أن تصبح الصناعة الكورية في السيارات منافسة للولايات المتحدة الأمريكية مهد صناعة السيارات ؟ ومن كان يتوقع قبل (20) سنة أن تصبح الصناعة الصينية أو السنغافورية منافسة للصناعة الأوروبية ؟ كل ذلك تم من خلال التصنيع المبرمج ودعم قطاع الصناعة الوطنية بكل الوسائل. أما إذا كان قطاع الصناعة الأردني ضعيفاً ، فهذا خطأ استراتيجي من صنع أيدينا، وناتج عن قصر النظر في الرؤية و السياسات و الخطط والبرامج ،وعن الإفراط في الاستهلاك وفتح باب الاستيراد على مصراعيه, وعقد اتفاقيات التجارة الحرة غير المتكافئة. لم يكن لدينا في الماضي أبداً أي إستراتيجية وطنية للتحول إلى اقتصاد صناعي. إما أن ينمو القطاع الصناعي بأسرع من معدل النمو الاقتصادي، فهذا هو الأمر الطبيعي في هذه المرحلة. وهو ما تشهده سنوياً كل من الصين والهند وغيرها من الدول الناهضة. حيث وصل نمو القطاع الصناعي في بعض السنوات في الصين إلى 20%، فيما كان معدل النمو الاقتصادي 10%. إن جميع الدول عالية الدخل باستثناء الدول النفطية هي دول صناعية ابتداء من فنلندا، ومروراً بالدنمارك وهولندا وبلجيكا وانتهاء بتايوان وماليزيا وسنغافورة . و قد تحولت هذه الدول إلى دول صناعية بعد أن كانت في عداد الدول المتخلفة، و هذا ما نحن في أمس الحاجة إليه في بلدنا، إذا أردنا للإقتصاد الوطني أن يخرج من عنق الزجاجة، و أردنا للخدمات والزراعة أن يتصاعد إنتاجها و قيمتها ، و لدخل الفرد أن يرتفع، و للمحافظات أن تنمو، و للبطالة أن تتراجع، وللفقر أن يتقلص. والسؤال ألا نستطيع أن نتعلم ونفيد من تجارب الأمم في الوقت المناسب ؟ و نقول نعم للصناعة، ولتصنيع الاقتصاد بكامله. فذلك الذي له مستقبل.