“تنمية المحافظات” ،عبارة تتكرر كل يوم، شأنها شأن الأغنية الوطنية ، وهي بالنسبة للكثيرين من أبناء و بنات القرى والبوادي حلم وأمنية، ولكن العمل الذي يرافق هذه الأغنية متواضع إلى الدرجة التي لا يلمس أحد تأثيره. وما جاء في كلمة الملك عبدا لله الثاني في زيارته لاربد قبل أيام “أن تنمية المحافظات أولوية قصوى” هو تأكيد و تكرار لنداءات سبق وان وجهها إلى عدد من الحكومات المتعاقبة. ولكن التجاوب كان شكليا و مظهريا. لماذا؟ ربما لأن مفهوم الأولوية عند الإدارات غير واضح، وكلمة قصوى لا تعني الشيء الكثير للمسؤول العادي. و ربما لأن تنمية المحافظات عملية صعبة ومجهدة، وهذه حقيقة، ولا أحد يريد أن يجهد نفسه بهذا الأمر.
أن معاناة الجزء الأكبر من المحافظات تتمثل في الاضطرار بالتوجه نحو الوظيفة الحكومية الضئيلة بسبب غياب المشاريع و انعدام فرص العمل، والبطالة التي تتعدى 18%، و بالتالي هجرة الأراضي الزراعية و انحسار الرقعة الزراعية، وتدهورها بسبب الجفاف و غياب الحصاد المائي والضخ الجائر للآبار و ارتفاع تكاليف الأسمدة و غياب الإرشاد الزراعي الفعال.و يتبع ذلك تراجع الثروة الحيوانية بسبب نقص الأعلاف و أثمان الأدوية البيطرية الباهظة و انخفاض إنتاج المحاصيل.يضاف إلى ذلك التلوث و إزالة الغابات و بالتالي ضعف التنوع الحيوي, و فوق كل ذلك تدهور أوضاع الكثير من المدارس والمراكز الصحية وبالتالي تراجع التعليم والصحة، و عدم تفعيل القانون فانتشرت السرقات و أعمال العنف والتعديات على المرافق العامة والممتلكات الخاصة ،الأمر الذي اعكس على هيبة الدولة والأمن المجتمعي. ومن هنا فإن تنمية المحافظات عملية اقتصادية سياسية اجتماعية تكنولوجية ثقافية مركبة و شاقة. والدوائر الحكومية غالبا ما تبتعد عن هذه التشكيلات المتعبة. ولذلك تلجأ إلى الأسهل مثل إنشاء طرق فرعية أو بناء مدارس أو توسيع مستشفيات. وهذه كلها أعمال مفيدة، ولكنها ليست التنمية المطلوبة التي ينتظرها الناس بعد أن ارتفع خط الفقر ليشمل أكثر من 14% في كثير من المناطق.
الأشكال وكما يقول الملك هو “الحد من مشكلتي الفقر والبطالة و إيجاد فرص عمل للشباب”. وهي ظاهرة تزداد تعقيداً وتشتد وطأة يوما بعد يوم بسبب ارتفاع الأسعار وتزايد أعداد الشباب الباحث عن العمل وغياب المشاريع الإنتاجية. وبسبب حالة عدم الرضا التي تسود الأوساط الشعبية نتيجة لمشقة الحياة وشعورهم بالتهميش الاقتصادي الاجتماعي.
ومن جهة أخرى تشير الحكومة إلى صعوبة إنشاء المشاريع الإنتاجية في المحافظات، وهذا صحيح، لأن الجانب الاجتماعي يلعب دوراً في كل ذلك، ولكنه ليس نهاية الطريق. و هذه الصعوبات يمكن التغلب عليها إذا توفرت الإرادة وتوفر الإدراك بفداحة الحالة و خطورتها. والملك يدعو إلى جذب الاستثمارات، ولكن دون أن تدخل الحكومة شريكا مع القطاع الخاص في الجانب الاجتماعي الاقتصادي التكنولوجي ، كما فعلت الدول الأخرى مثل الهند وماليزيا وفيتنام وغيرها، فإن تنمية المحافظات لن تتحقق. لأنه لا يمكن تنفيذها من خلال الاعتماد على المستثمر بمفرده و إلقائه وحيدا وفي هذه الظروف المضطربة القلقة في كل اتجاه.
وإذا أردنا أن لا نتجشم صعاب الإبداع والابتكار، كما هي العادة، فإن الحلول التي تبنتها دول كثيرة يمكن الإفادة منها و إيجازها كما يلي: أولاً: أن تشكل الحكومة هيئة صغيرة أو وزارة فاعلة لتنمية المحافظات. فبدون مؤسسة متخصصة مسئولة عن الانجاز لا يمكن التقدم. ثانياً: تشكيل فريق بحثي اقتصادي اجتماعي فني لكل لواء و لكل محافظة، مقره في المحافظة وليس في عمان، لإعداد المواد والمعلومات والبيانات اللازمة لإصدار “دليل استثمار اللواء و المحافظة” وبالتعاون مع المحافظ والجامعة. ثالثاً: تنشئ الحكومة من خلال إحدى مؤسساتها شركة استثمارية قابضة برأسمال (10) مليون دينار في كل محافظة، وتشارك الحكومة في هذه الشركة وتدعو إليها شركاء من المستثمرين والأعمال والشركات الكبيرة والبنوك رابعاً: يعمل الفريق البحثي وبالتعاون مع المنظمة التعاونية على إنشاء جمعيات تعاونية في المحافظات يساهم فيها المواطنون وتكون شريكة في الشركة القابضة. خامسا:تقيم الشركة القابضة المشاريع التي تراها أكثر جدوى من خلال تأسيس شركة مساهمة عامة تساهم فيها الجمعيات التعاونية والمواطنون والمستثمرون والحكومة. سادساً: تعطي الحكومة الدعم للشركات صاحبة المشاريع من خلال تأجير الأراضي بأسعار رمزية، وتقديم نوع من الحماية لفترة محدودة. سابعاً: يتولى مركز التدريب المهني والجامعة والمعهد الموجود في المحافظة تدريب الأيدي العاملة المطلوبة حسب طبيعة العمل.
وكما في بلدان كثيرة تبدأ هذه المشاريع قريبة من المراكز الأمنية والتجمعات السكانية وذلك لإعطائها الحماية اللازمة، وبعد ذلك تنتشر بطبيعتها .وفي حقيقة الأمر فإن الجانب الاجتماعي والوجود الحكومي في المشاريع وفي بداياتها ولفترة زمنية مناسبة يمثل حجر الزاوية في نجاح أي برنامج لتنمية المحافظات.
لقد دعا الملك المسئولين والمواطنين للمشاركة في رسم السياسات المحلية وتحديد الأولويات، وهذا جزء من العمل الاجتماعي ينبغي أن يكون مدعوما بجهود القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني. أن دعم المشاريع الريادية وتقديم المساندة والعون لها مسألة بالغة الحيوية، ولكنها ليست كافية. بمعنى أن المحافظة لا تستطيع أن تنتظر حتى تتحول المشاريع الريادية إلى حالة عامة ونهضة اقتصادية اجتماعية. إن مسؤولية الحكومة في هذا الموضوع تأتي في المنزلة الأولى، وعليها أن تجمع المستثمرين والرياديين والقوى جميعها لتعمل في إطار تنمية اللواء و المحافظة وتنفيذ المشاريع المجدية فيها، إضافة إلى المشاريع المتوسطة والكبيرة كثيفة الاستعمال للأيدي العاملة التي تبادر إليها الحكومة والشركات.إن التنمية الحقيقية غير المترددة للمحافظات والألوية والقرى والبوادي هي حجر الزاوية للأمن الداخلي ولبناء المستقبل. إنها أولوية قصوى ..