اشار وزير المالية الى ان صندوق النقد الدولي قد طالب الاردن بشروط جديدة للموافقة على برنامج تسهيلات مالية للسنوات القادمة. وكان في مقدمة هذه الشروط تخفيض الدين العام من واقعة الحالي البالغ 93% من الناتج المحلي الاجمالي الى 80%. وهذا يعني بالأرقام السائدة اليوم، تخفيض الدين العام من 24 مليار دينار الى 20 مليار دينار، وتعني مستقبلا ضرورة “توجه الدولة عمليا لزيادة معدل نمو الناتج المحلي الاجمالي وتقليص معدل الاستدانة”. وقد جاء طلب الصندوق في عين الوقت الذي تتوقع الحكومة ان تذهب الى مزيد من الاقتراض بمقدارقد يصل في مجمله 2 مليار دينار خلال العام الحالي.
والسؤال كيف يمكن التوفيق بين ما يطلبه الصندوق وبين توجه الحكومة الى مزيد من الاقتراض بسبب عجز الموازنة الدائم، وعدم القدرة على تقليص النفقات من جهة، وتواضع النمو الاقتصادي (2.5%) من جهة ثانية؟ و تدفق اللاجئين بكل أعبائهم الإقتصادية و الإجتماعية من جهة ثالثة؟ ان هذا الوضع يتشابه الى حد كبير مع الوضع في اليونان قبل سنوات، والتي تفاقمت مديونيتها لتتعدى ما تسمح به المؤسسات المالية وشركاؤها في الاتحاد الاوروبي. وكانت اليونان قد وقعت في ثماني متاهات اشرت اليها قبل 4 سنوات (الدستور 5/3/2012) أدت الى ازمتها الخانقة، ورغم محاولات التأجيل والتسويف ،اضطرت بعد ذلك للخروج من الازمة ،ان تقبل جميع الشروط التي طلبها الاتحاد الاوروبي، وفي مقدمتها تخفيض النفقات بنسب كبيرة، بما في ذلك تخفيض الرواتب والاجور.
أما المتاهات الثماني فهي: أولا التوسع في الاقتراض دون ضوابط ،حتى وصلت مديونيتها 127% من الناتج المحلي ثانياً التوسع في الانفاق باكثر من امكانات الاقتصاد الوطني ثالثاً تراجع التعليم ،وفقدان مخرجات التعليم القدرة على التفاعل مع الاقتصاد، وانشاء المشاريع الريادية. رابعاً تراجع الانتاج السلعي والتوسع المفرط في الاستيراد حتى وصل الأستيراد (6) آلاف دولار للفرد (وقد وصلنا في بلدنا اليوم اكثر من (3) آلاف دولار استيراد للفرد) خامساً: الفساد والترهل في الادارة الحكومية وفقدان الثقة بين اطراف المعادلة السياسية ألإقتصادية الإجتماعية سادساً: الانفاق على مشاريع مظهرية وبنية تحتية ،والعزوف عن تمويل المشاريع الانتاجية سابعاً: المال السياسي والتهرب الضريبي وزواج المال بالسلطة. ثامناً: تجميل البيانات والارقام لإظهارها بشكل ايجابي وطمئنة المجتمع باستمرار دون وجود مرتكزات حقيقية تبعث على الاطمئنان.
وخلال السنوات الاربع الماضية تصاعدت المديونية في بلدنا بمقدار (8) مليارات دينار وارتفعت المستوردات الى (16) مليار دينار مقابل 6.5 ملياردينار للصادرات وانخفض الادخار بحيث اصبح ترتيب الاردن بين الدول 104 وترتيبها في عجز الموازنة 137 وترتيبها في المديونية 122.
و نلاحظ ان تلك المتاهات، قد دخل بها اقتصادنا الوطني دون التنبه لخطورتها في البدايات، و دون الاستعداد لمواجهتها. الأمر الذي ادى الى تراكم المديونية وارتفاع البطالة (15%) وارتفاع تكاليف المعيشة (عمان اغلى عاصمة عربية). ومهما سيكون موقف صندوق النقد من حيث التراخي او التشدد، فإن المأزق اليوناني بتفاصيله وآلامه وتداعياته ، يتحرك باتجاهنا بسرعة كبيرة ،اذا لم تبادر الحكومة، بالتشارك الحقيقي المخلص المتكافىء مع مختلف الأطراف ،الى اتخاذ سلسلة من الاجراءات الاقتصادية الاجتماعية، خارج موضوع زيادة الضرائب هنا وهناك، فتلك لا تحل المشكلة بل تفاقمها، وخارج موضوع المساعدات مهما كانت سخية.
وعليه فإن الامر يستدعي التفكير، و” التواضع من المؤسسة الرسمية” بما يسمح بالاستعانة بالخبراء و الجامعات وتجارب الدول الاخرى” خارج الاطار التقليدي الذي يركز على المال ،ويهمل الاقتصاد الانتاجي.و في الإطار التالي: اولاً: تقليص النفقات العامة بنسبة 10% للسنوات الخمس القادمة ومن شأن هذا التخفيض ان يوفر 800 الى 900 مليون دينار سنويا كانت الحكومة ستلجأ الى الاستدانه لمواجهتها. ثانياً: زيادة رسوم التعدين بالنسبة للبوتاس والفوسفات و غيرها لتكون 30% من السعر العالمي للمادة المباعة ثالثاً: ضبط الالتزام الضريبي والاستعانة بالخبراء والشبكات الالكترونية واعتبار التهرب الضريبي جريمة يعاقب عليها القانون. وتقدر عائدات التهرب الضريبي بأكثر من (800) مليون دينار. رابعاً: المباشرة بانشاء مشاريع انتاجية ذات قيمة مضافة عالية بالتشارك مع القطاع الخاص والصناعات الكبيرة بشكل خاص. خامساً: انشاء محطة استقبال واحدة للمستثمرين يتم تفويضها من قبل الدوائر ذات العلاقة لاستكمال المتطلبات و تصبح حقيقة مقبولة لدى المستثمرين و تطبيق التجربة السنغافورية في هذا الشأن. سادساً: المساعدة والمساهمة في انشاء تعاونيات في مراكز المحافظات تقوم بتمويل وانشاء مشاريع انتاجية جديدة تنبثق عن خطة سليمة لتنمية المحافظات. سابعاً: ازالة العوائق الادارية امام مشاريع الطاقة المتجددة على المستوى الفردي والحجوم الكبيرة والاتفاق مع شركات التوزيع على تعويض مناسب حتى يكون لها مصلحة في التحولات الجديدة. ثامناً: مساعدة الشركات المتعثرة على الخروج من مشكلاتها واستعادة نشاطاتها وفق ترتيبات تعاقدية مناسبة تكون الدولة شريكا مؤقتا فيها.إضافة إلى ضبط أعمال الشركات المساهمة العامة التي تغول على كثير منها أعضاء مجالس إداراتها ليأكلوا أموال المساهمين دون ضوابط. تاسعاً: العمل على تصنيع الاقتصاد من خلال البدء بصناعات عالية القيمة المضافة واحلال الانتاج المحلي بدل المستورد وفق برنامج وقوائم معلنة. عاشراً: تخصيص جزء من المساعدات والمنح وخاصة الخليجية لانشاء مشاريع انتاجية في إطار تصنيع القطاعت الإقتصادية بمافيها الزراعة والسياحة، وليس بنية تحتية ونفقات جارية.حادي عشر:فرض رسوم على تداولات الأسواق المالية و شراءْ و بيع العقارات لغير الأردنيين.
و أخيرا، فإن تجارب الدول جميعها تؤكد أن الأزمات المالية المزمنة ما هي إلا نتيحة و تعبير عن “سياسات القفز عن الإقتصاد إلى المال ، واستسهال الركض إلى البنوك بدلا من المصانع و المزارع”. و لا تحل هذه الازمات ،و قد مضى على تفاقمها في بلدنا 30 سنة، إلا من خلال المداخل الإقتصادية الإجتماعية الجديدة المبدعة، في إطار آليات إدارية متطورة، والتزام وطني متين يهدف إلى “بناء وطن بعيد عن الإعتماد على الآخرين”. وهذا يفرض و يحتم المشاركة بين القطاعات الرسمي و الأهلي و الخاص و مراكز العلم والبحث والاستعانة بالخبراء والإفادة من نماذج الدول الناهضة. ولعل الترتيبات الجديدة مع السعودية يتم التعامل معها، ليس من مفهوم المال ،و بالتالي التراخي و التعويل على المساعدات ،و إنما إعتبارها أداة مساعدة للخروج من هذه المتاهة و التخلص من هذا المرض المزمن ، و لبناء محطة انطلاق حقيقية نحو مستقبل أفضل في هذا الإتجاه.