سنوات طويلة، و الحديث يدور عن الاصلاح ، والتنمية السياسية، والثورات البيضاء في الادارة والزراعة والتعليم والثقافة والسياحة والصناعة والاستثمار والشباب، وغير ذلك. وفي كل مرة تعلو الموجة الإعلامية ، وتتكرر اللقاءات والحوارات، ويطرح السياسيون والمفكرون والاقتصاديون افكارهم، وتكتب الاوراق و المواثيق والاجندات، والاستراتيجيات وخرائط الطريق. ولكن الاصلاح الحقيقي لا يراه أحد والتغيير لا يلمسه المواطن، ولا تنخرط فيه الإدارة، باستثناء تغيير الأشخاص و تجديد الوعود، و اختراعات لغوية لا مبرر. ففي الاصلاح السياسي اخترعتالادارة تعبيراً ليس له معنى محدد، الا وهو “التنمية السياسية“، وفي الإقتصاد اطلقت الادارة عبارة الإصلاح الإقتصادي على الترتيبات المالية مع المؤسسات المقرضة، واطلقت الثورة البيضاء على تطوير الادارة، و ألقت مسؤولية التغيير على الشباب ،وهكذا.صحيح أن الأردن حقق في مئويته الأولى الكثير من الإنجازات الجوهرية من تعليم إلى صحة ،إلى استقرار إلى رأسمال بشري متميز و هو مؤهل لاستمرار الإنجاز . ومن منظور السياسة الدولية فإن الاردن يتمتع بعلاقات و سمعة طيبة ومشجعة مع دول العالم كلها، وعلى راسها الدول العربية وأوروبا، والولايات المتحدة الامريكية التي تعمقت العلاقات معها بشكل ملفت للنظر خاصة بعد توقيع المعاهدة الأخيرة. هذه الدول تقرأ التقارير الدولية وتعرف المؤشرات الرئيسية وتغض الطرف عنها مراعاة لمصالحها.
و تدخل المنطقة حولنا في صراعات و نزاعات أهلية وتصبح مستباحة للقوى الدولية، ولكن العالم يتقدم بسرعة كبيرة، (رغم الكورونا)، في حين تزداد المشكلات المحلية تعقيداً و كلفة ، ويغدو الإصلاح أعلى مخاطرة و أشد مشقة. فترتجف الأيدي، وتتوقف عجلة التغيير، حتى وصلنا الى أرقام غير اعتيادية في المفاصل الحيوية للدولة. سواء كان في المياه وانخفاض نصيب الفرد منها الى ما يقرب من 80 متراً مكعباً سنوياً، أو في البطالة حيث وصل معدلها العام 25% أي 5 أضعاف المعدل العالمي، و في بعض المحافظات 32% وبين الشباب 50% فاصبح لدينا 460 الف عاطل عن العمل وفي نفس الوقت 1.0 مليون عامل وافد (مع الاحترام). وتضخم حجم جهاز الرسمي فاقترب من 40% من القوى العاملة مقارنة بالمتوسط العالمي 20%، واستمرت مساهمة المرأة في القوىالعاملة من اخفض دول العالم ولا تتعدى 14% رغم التعليم المتكافىء مع الذكور. وانتشر التدخين والمخدرات وخاصة بين الشباب فاحتل الأردن المرتبة الأولى في العالم في التدخين .واعتمدنا على الأستيراد بدل الإنتاج بمافي ذلك الغذاء حيث نستورد 85% من احتياجاتنا الغذائية. وفي المحصلة بقي متوسط دخل الفرد في حدود3200 دينار سنويا أي 41% من المتوسط العالمي و بقينا بعيدين عن الديمقراطية ومؤشرها لدينا 39% (المتوسطالعالمي (55%) وغير ذلك.
ولكن منعة الدولة وتماسك المجتمع، و متطلبات الحياة، و ثقة المواطن لا تتحقق إلا بسلامة و فاعلية جميع القطاعات والمفاصل لتعمل معا متزامنة باتجاه المستقبل. كما أن هذه الارقام لم تتصاعد فجأة ،وانما تفاقمت تدريجيا على مدى 25 عاماً ،دون وقفة جادة للمراجعة والتصحيح ،رغم المعاناة المتزايدة في معيشة المواطن واتساع مساحات الفقر وتآكل الطبقة الوسطى ،ورغم الصعوبات التي اخذت تواجهها الحكومات في تدبير امورالدولة مالياً واقتصادياً واجتماعياً. إلا أن الادارات المتعاقبة اعتادت ان تلجأ الى المساعدات والمنح والاقتراض من الدول ومن المؤسسات المالية وتكتفي بذلك ، حتى وصلت المديونية 32 مليار دينار. واليوم وفي ظل التغيراتالسياسية والاقتصادية والتكنولوجية الدولية، تقف كثير من البلدان ونحن منها على مفترق طرق: اما الاصلاح الحقيقي واما استمرار التراجع مما يهدد الامن المجتمعي والأمن الوطني بكل تفاصيله.
ان الولايات المتحدة باعتبارها الحليف الرئيسي للاردن لا يمكن الإعتماد عليها في تجاوز مشكلاتنا الداخلية ، ولازالت الإدارة العميقة فيها غير خالصة النوايا تجاه الاردن، وتريده دولة تقف على الحافة: لا تتقدم وتنهض وتصبح دولة قوية معتمدة على ذاتها، ولا تتراجع الى درجة الفشل الكامل. وهذه رؤية مستمدة جزئيا من الرؤية الاسرائيلية الاستراتيجية بأطماعها المعروفة. و من هنا، فإن الطريق الأقصر لإحباط الشعب، و تحقيق ما يريده أعداء الأردن، هو الدوران حول القضايا دون حسمها، والحديث عن الاصلاح دون الدخول فيه. ويشجع هذا الاتجاه بل ويتعاون معه المنتفعون والمتكسبون والمستغلون و المستفيدون من الوضع القائم. و يساعد على ذلك إدارات تخشى على بقائها ، وبالتالي لا تأخذ أي مخاطرة نحو التغيير ، وجهاز وظيفي غير مكترث إلا بالوظيفة، حيث باستطاعته افشال اي برنامج. وهكذا نحن أمام اعداء و معيقين للإصلاح منهم الظاهر ومنهم الخفي. لقد كانت معادلة الإعتماد على المساعدات و الإقتراض في الماضي كافية لحفظ التوازن. ولكن الأمر مختلف اليوم. فالبقاء اصبح مهدداً نتيجة للإخفاق في الاستجابة لمتطلبات الاصلاح بعد أن قفز عدد السكان الى 10.7 مليون نسمة خلال فترة قصيرة، بكل ما تعنى كلمة السكان من حقوق وواجبات ومطالبات واستحقاقات. هذا إضافة الى عدوانية اسرائيل وطموحاتها الاستعمارية و سعيها لتكبيل الاردن من خلال الغاز و الماء و منظومة اللوجستيك، بدعم من الولاياتالمتحدة الأمريكية.
في الجانب السياسي، يعرف الجميع ما هو المطلوب : ترشيق الحكومة و استقرار التشريعات و تخفيض حجم مجلس الامة الى 80 نائباً في البرلمان و40 عيناً في الاعيان يتم انتخابهم ايضاً وفق مواصفات كفاءة وفق قانونانتخاب يجمع الوطن و المحافظات، وقانون احزاب يسمح للأحزاب بالعمل الحزبي الصحيح وفق مدونة سلوك وطنية ليكون ممثلوهم القوة المجركة في البرلمان لمراقبة وتوجيه حكومة كاملة الولاية تنفذ برنامجاً محدداً تكون مسؤولة امام مجلس الأمة.
كما ان جوهر الاصلاح الاقتصادي هو التحول نحو الاقتصاد الصناعي الاجتماعي الحديث، ويبدأ بمعالجة مشكلات القطاعات الاقتصادية القائمة من صناعة وزراعة وسياحة وغيرها ،والشروع الفوري في انشاء مشاريع انتاجية وخاصة في المحافظات لتحل محل المستوردات و تعطي قيمة مضافة عالية. كل ذلك بتمويل مشترك من المواطنين والبنوك و الشركات و صناديق الإستثمار و الإدخار و التعاونيات والحكومة.
ويبدأ الاصلاح الاجتماعي بالتركيز على مشكلة البطالة. وهنا يصبح التوسع في المشاريع الانتاجية ضرورة لخلق فرص العمل الجديدة. ويستتبع ذلك تطوير التعليم و التأهيل التكنولوجي و البحث العلمي ليستجيب لمتطلبات الاقتصاد المتنامي باضطراد، وتعود الطبقة الوسطى للانتعاش من جديد.
ويبدأ الاصلاح الاداري بالتزام كل وزارة و دائرة بتأهيل موظفيها لتنفيذ برامج الإصلاح في إطار من الكفاءة والنزاهة و الحزم في تطبيق القانون و ناجزية القضاء و المشاركة الفاعلة بين مختلف الأطراف، و الترقيات على أساس الكفاءة وجودة الأداء.
ان المعضلة في الاصلاح لا تكمن في نصوص القوانين و الوثائق، وانما في الادارة التي تطبق القوانين وفي مدى تدخل الدولة العميقة في هذه العمليات بكاملها. فهل الدولة العميقة مستعدة للتخلي عن النمط السائد ؟.
كل ذلك يتطلب وضع وثيقة مختصرة توجز مفردات الإصلاح و تقرها الحكومة و مجلس الأمة و تصدر بإرادة ملكية، لتصبح ملزمة للجميع و عابرة للحكومات و الدوائر والأشخاص. و يتم تقييم أداء الإدارة على ضوء النجاح فيالإنجاز. إن ثفة المواطن هي الأساس، و تتحقق حين يرى العمل الجاد و النزاهة، و العدل و الإخلاص. و مرة ثانية..الملك يريد، و الوطن يريد ،و الشعب يريد، فهل يبتعد عن الطريق من لا يريد؟