لعل قرار وزارة التربية والتعليم بالاكتفاء بدورة واحدة للتوجيهي تخلصا من أعباء وتكاليف الدورتين، واسترضاء الجمهور برفع علامات التوجيهي إلى العلامة الكاملة، وقيام وزارة التعليم العالي والبحث العلمي بالإيعاز للجامعات الرسمية بقبول أعداد كبيرة من الطلبة تتجاوز الاستطاعة الاستيعابية لعدد منها، يعطي نموذجاً على غياب الرؤية البعيدة المدى لقطاع التعليم، ومعالجة القرار الخاطئ بسلسلة من القرارات الخاطئة.
من السهل جداً رفع علامات التوجيهي إلى أي مستوى بمجرد وضع معادلة بسيطة بزيادة كل طالب عدداً من العلامات، ومن السهل أن تقبل دائرة القبول والتسجيل في الجامعة العدد الذي تريده الرئاسة أو يفرضه مكتب القبول الموحد، ولكن من الصعب تتبع وضبط جودة المسيرة التعليمية والتربوية لمئات الآلاف من الطلبة بعد ذلك.
تؤكد التقارير والدراسات الدولية أن التعليم المطلوب من أجل المستقبل هو: التعليم الذي يركّز على الطالب بذاته، واعتبار كل طالب قادرا على الإبداع، وبالتالي ترتيب المناهج والبيئة التعليمية لتتواءم مع كل طالب أو مجموعة صغيرة من الطلبة، بكل ما يعني ذلك من مقدرة موضوعية ومتسع من الوقت للهيئة التدريسية، وأعداد وتنوعات ومساحات كافية من المرافق، ومرونة في المنهاج، ونشاطات لامنهجية، ومشاركة الطلبة في مختلف المفاصل الإدارية والهيكلية في العملية التعليمية، وصولاً إلى حاكمية جيدة تنجح في تحقيق الهدف الكلي من التعليم، ومن اكتساب مهارات التعلم والبحث العلمي والتطوير والإبداع، وبالتالي المساهمة في تقدم البلاد.
والسؤال هنا، حين تصل أعداد الطلبة في قاعة المحاضرات في التخصصات الإنسانية والعلمية إلى (100) طالب وطالبة أو أكثر، فهل يستطيع الأستاذ أن يعطي الاهتمام لكل طالب لكي يتيح له ولها فرصة التفاعل مع المنهاج، والإبداع والتمكن والتعلم؟. هل تستوي القاعة والمختبرات التي تضم العشرات وأحياناً المئات من الطلبة مع القاعة والمختبر الذي يضم عدداً محدوداً من الطلبة؟. بالتأكيد لا. الأمر الذي ينعكس سلبا على الطالب. وهنا لا بد من الإشارة إلى عدد من المسائل المهمة.
أولاً: العلامات: تبين الدراسات الموثوقة حول الازدحام في الجامعات أن 33 % من الأكاديميين يقرون بأنه كلما ازداد ازدحام الطلبة، اضطرت الجامعة إلى الضغط باتجاه زيادة العلامات لرفع نسبة النجاح، ومقايضة الأعداد بنوعية التعليم، وهكذا ينجح من ليس مؤهلاً، لينطلق إلى سوق العمل، ويصبح جزءا من آلة صنع القرار بعد سنوات.
ثانياً: صقل الشخصية: إن الهدف من التعليم الأساسي وبدرجة أكبر التعليم العالي هو بناء وصقل شخصية الطالب بالمفهوم التربوي والعلمي والإبداعي، ومن منظور وطني اجتماعي وإنساني. ويرى 40 % من الأساتذة أن الازدحام في الأعداد يضعف نوعية التعليم والتمكين من جانب، ويؤثر على الصحة النفسية والذهنية والثقافية للطلبة من جانب آخر، وعليه فلا يمكن للازدحام الذي تعاني منه قاعات المحاضرات والساعات الطويلة للأساتذة أن تساعد على تحقيق هدف التعليم.
ثالثاً: البيئة الجامعية: لعل ما شهدته عدد من جامعاتنا في الأيام القليلة الماضية من شجار ونزاع بين الطلبة، مما استدعى تدخل الأمن واضطرار الجامعة لفصل عدد من الطلبة فصلاً مؤقتاً أو دائماً، يعود في جزء منه إلى الازدحام والاكتظاظ في كل مكان في الحرم الجامعي، بكل ما يرافق ذلك من توترات داخلية وتراجع الوضع العام وخاصة في المرافق والمختبرات، وهذه مسألة غاية في الخطورة لما يتبع هذه النزاعات من انقسامات وتحيزات فئوية أو مناطقية أو طائفية وسواها، فبدلاً من أن تكون الجامعة ساحة لدمج المكوّنات الشبابية في المجتمع وصهر مفرداتها في قالب وطني متماسك يفرض الاكتظاظ على الجامعة أن تغدو ساحة لإظهار الكراهية والاختلاف.
رابعاً: النموذج والقدوة: إن دور الأستاذ والمعلم أن يكون قدوة للطلبة ونموذجاً لهم، وهذا الدور لا يمكن أن يتحقق حين ينقطع أو يضعف التواصل بين الأستاذ والطالب بسبب الأعداد الضخمة والضغوطات من كل اتجاه، كما أن الطالب لا يستطيع أن يتعلم بتميز ويتقن تخصصه ويتمكن من مهاراته إذا كانت الأعداد ضخمة وبعيدة عن المقاييس المتعارف عليها، حيث يصل معدل الأساتذة للطلبة (1) استاذ لكل (50) طالبا أو(1) إلى (100) بينما النسبة في الجامعات الخاصة (1) إلى (20) وفي الدول المتقدمة (1) إلى (15) أو أقل.
خامساً: المواهب والريادية: تنص المادة الثالثة من قانون التعليم والبحث العلمي على أن من أهداف التعليم العالي تنمية الاهتمام بالتراث الوطني والثقافة القومية وكذلك توفير البيئة الأكاديمية والبحثية والنفسية والاجتماعية الداعمة للإبداع والتميّز وصقل المواهب والابتكار والريادية، ومثل هذه الأهداف لا يمكن أن تتحقق مع الازدحام والاكتظاظ وقلة الفرص للتفاعل بين الطلبة والأساتذة وبين الطلبة والمؤسسات ذات العلاقة، لذا يتخرج الطلبة وهم يختزنون المعلومات دون أن يتغير إطارهم الثقافي والذهني والإبداعي وهذا ما تعكسه كثير من السلوكيات ومواقع التواصل الاجتماعي، الأمر الذي يعني خسارة مزدوجة للطالب وللوطن. سادساً: العنف والتعليم: تشير الدراسات إلى أن أسباب العنف الجامعي متعددة، ويأتي في مقدمتها الخلل في التعليم من منظور تربوي، والازدحام، والمخدرات والكحول، وعدم القدرة على التحكم في السلوك، وغياب أو ضآلة النشاطات الطلابية في الثقافة والحوار، والاستكشاف والخروج في رحلات استطلاعية وتعليمية، وضعف التواصل مع المؤسسات ذات العلاقة، وحقيقة الأمر أن اكتظاظ الجامعات بأعداد الطلبة يجعل من المستحيل توفير البيئة الطاردة للعنف، وكذلك متابعة الطلبة سلوكياً وصحياً وثقافياً ومهاراتياً، وهذا يدفع إلى الأجواء المشحونة من جهة وإلى مزيد من انخفاض مستوى التعليم والتحصيل والتمكين من جهة ثانية، بكل ما يعني ذلك من خسائر منظورة، وغير منظورة.
إن التعليم العالي غاية فردية واجتماعية للغالبية الكبرى من المواطنين، وإن الجامعات الرسمية والخاصة يجب أن تعمل معاً بتوازن و تكامل وكمرفق وطني واحد. كذلك فإن الأهداف الوطنية للارتقاء والتقدم لا تتحقق بمجرد قبول الطلبة في الجامعة، وإنما تتحقق بتوفير الشروط والبيئة اللازمة، وفي مقدمتها الأعداد المتناسبة مع المرافق والمساحات والهيئة التدريسية المناسبة للعدد والمستوى، للوصول إلى خريجين متمكنين ومبدعين، كما أن الدولة تخسر مئات الملايين من الدنانير سنوياً، نتيجة لتدني نوعية التعليم وتراجع قدرة الطالب على الإفادة والاستيعاب، وهي خسارة تستمر وتتضاعف مع كل طالب الى أن يتقاعد من العمل بعد 30 سنة أو أكثر.
والمأمول أن تعيد كل من وزارة التربية والتعليم ووزارة التعليم العالي النظر في سياسات التوجيهي والعلامات والعودة إلى نظام الدورتين وتصحيح القبول في الجامعات لكي لا تتجاوز الجامعة استطاعتها الاستيعابية وفق المعايير الدولية والمطبقة في الجامعات الخاصة، ووقف الهدر غير المنظور في المال الوطني، ورأس المال البشري، والإفادة من كل مؤسسة وطنية تساهم في رفع مستوى التعليم، فذلك هو المطلوب من أجل المستقبل.