وصلت المقاومة الفلسطينية أخيرا إلى اتفاق لإنهاء الحرب الوحشية الصهيونية على قطاع غزة، بعد 470 يوما من القتل والتدمير والتحريف والتجويع والتعطيش والأمراض والإغلاق وهدم 76 % من بيوت القطاع وفقدان أكثر من 50 ألف شهيد وأكثر من 110 آلاف مصاب وجريح، وبعد أن عجز المجتمع الدولي عن وقف العدوان في وقت مبكر، رغم قرارات محكمة العدل الدولية والأمم المتحدة ومحكمة الجنايات الدولية. استمرت حرب الإبادة الجماعية بالمشاركة الأميركية الكاملة والدعم البريطاني الألماني الأميركي الأعمى للمعتدي الإسرائيلي، وبعد أن أكدت منظومة الدول العربية غيابها عن الساحة باستثناء الدعم السياسي والدبلوماسي والإغاثي الذي قدمه الأردن منذ اللحظة الأولى للعدوان وحتى صباح اليوم الأول من بدء تنفيذ الاتفاقية. لم تنتصر إسرائيل قطعا، ولم تنهزم المقاومة الفلسطينية، وعادت القضية الفلسطينية إلى موضع الاهتمام الدولي والعربي الشعبي، ولم يخرج ثلاثي الشر نتنياهو- بن غفير- سموتريتش أبطالا كما توهموا . ورغم الآلام وفقدان الأحبة بل ومقومات الحياة الإنسانية الكريمة وآلاف الضحايا، شعر الغزيون بالفرح وخرجت جموع الأطفال والشباب تعبر عن فرحتها بالوصول إلى إتفاق لوقف الحرب وهي تهزج وتغني بين انقاض بيوتها ومدارسها وجامعاتها ومستشفياتها ومساجدها وكنائسها. وغمر العالم نوع من الثقة والتفاؤل كان قد سبقه بأيام ارتياح عربي ودولي بانتخاب رئيس جمهورية لبنان جوزيف عون، وقبله سقوط نظام الأسد في سورية.
خرج يوم الأربعاء بايدن ليعبر عن رضاه بالوصول إلى اتفاق ويؤكد شراكته مع إسرائيل إلى درجة الانصياع، ويعدد المساعدات والدعم المادي والعسكري والسياسي واللوجستي الذي قدمته ادارته إلى إسرائيل المعتدية رغم الضغوط من كل جانب.
إلا أن المتمعن في نصوص الاتفاقية يلاحظ أن الكلمات والعبارات تحفها الكثير من المخاطر بسبب التأويلات الخبيثة والالتواءات في المعاني من الجانب الإسرائيلي حسب النهج الصهيوني التقليدي.
ومن المتوقع أن يميل الجانب الأميركي إلى كل تفسير يريده الإسرائيلي. وبالتالي لا بد للجانب الفلسطيني والعربي من الانتباه لهذه المسألة وإجادة التعامل معها والاستعانة بخبراء القانون.
ويمكن القول إن تطبيق الاتفاقية في مراحلها الثلاث سوف يتقدم على طريق من الألغام التي تحملها أساليب نتنياهو وخداعاته من جهة، وصياغة الجمل وانتقاء الكلمات من جهة ثانية، والنوايا الخفية لدى اطراف الجانب الإسرائيلي من جهة ثالثة، والإدارة الأميركية الجديدة وما ستعمل عليه من صفقات سرية من جهة رابعة.
وفي هذا الاطار لا بد من الاشارة إلى عدد من المسائل التي تتطلب الاستعداد لها من الجانب الفلسطيني ومناصريه من العرب. وغيرهم، وخاصة منظمات المجتمع المدني والبرلمانات والأحزاب
وربما على النحو التالي:
اولاً- الاستعداد للتعامل مع الخداع والمراوغة الإسرائيلية عموما ولدى نتنياهو على وجه الخصوص. فهو إذا شعر بأي ضغط يؤثر على موقعه ومستقبله السياسي سوف يسارع إلى اختلاق القصص والأحداث والمواقف التي تبرر أمام الرأي العام استئناف العدوان بحجة أن المقاومة الفلسطينية فعلت شيئاً ما مخالفا للاتفاقية.
ثانياً- من المتوقع أن تدفع أحزاب بن غفير وسموتريتش وغيرهما
وبتواطؤ مع نتنياهو والجيش الإسرائيلي تدفع المستوطنين إلى تصعيد هجماتهم في الضفة الغربية وبعض النقاط في القطاع ليظهر أنه يحقق مكاسب متواصلة على طريق استرضاء المتطرفين الدينيين.
ثالثاً- من المتوقع أن يصعد سموتريش وبن غفير من مطالبهما لنتنياهو والضغط بسرعة إعلان ضم الضفة الغربية أو أجزاء منها وربما بتأييد من البيت الأبيض.
رابعاً- من المتوقع أن تعمل القوات الإسرائيلية على اختلاق العوائق أمام رجوع النازحين إلى منازلهم وخاصة في شمال القطاع وصرفهم عن استعمال السيارات من خلال منع وصول الوقود والمواد الإغاثية إلى القطاع بالكميات اليومية المتفق عليها.
خامسا- وضع العقبات أمام إعادة تشغيل المستشفيات والمرافق العامة وخاصة الطرق.
سادساً-التوسع والتعسف في اعتقال مزيد من الشباب الفلسطينيين في القطاع وفي الضفة ليصبحوا أسرى جدد بدل الأسرى الذين سيطلق سراحهم.
سابعاً- تلكؤ بل وتشدد المحكمة العليا بالموافقة على قوائم الأسرى الفلسطينيين الذين سيطلق سراحهم وذلك كسبا للوقت وإحباطا للمقاومة.
ومع هذا فإن الاتفاقية لم تفصل حيثيات اليوم التالي لخروج القوات الإسرائيلية من القطاع. من سيدير القطاع وتحت أي غطاء؟
وهنا يبرز موضوع الانقسام بين فصائل المقاومة كواحد من الألغام التي سيستخدمها نتنياهو. الأمر الذي يستدعي ان تخرج الفصائل جميعها من عقلية غالب ومغلوب لتنهي، وخاصة فتح وحماس، حالة الانقسام خلال أيام وقبل أن تنتهى الـ 42 يوما الأولى. وقد كان بين الفريقين الكثير من النقاش والحوار على مدى سنوات، وجاء اليوم موعد الحسم والا سيعمل نتنياهو وبدعم أميركي وسكوت دولي على تدويل القطاع وتحويله إلى أرض متنازع عليها بدلا من أن تكون جزءا من الدولة الفلسطينية. وإذا كانت مفاوضات وقف إطلاق النار تضمنت بعض التنازلات فمن الأولى أن يعطي الفرقاء الفلسطينيون التنازلات فيما بينهم ويخرجوا قبل انتهاء المرحلة الأولى من الاتفاقية فريقا واحدا متماسكا متوافقاً على إدارة وطنية لقطاع غزة كجزء من الدولة الوطنية الفلسطينية وبمشاركة حماس وفصائل المقاومة الأخرى.
لقد قدم الفلسطينيون في غزة وفي الضفة الغربية تضحيات هائلة لا يجوز أن يبدد نتائجها خداع نتنياهو ومراوغته في كل اتجاه ولا العبارات الفضفاضة في النصوص. وعلى الجانب العربي أن يعزز من دعمه المادي والسياسي والقانوني للشعب الفلسطيني على كل مستوى ويترك وراءه خلافات الماضي مع هذا الفريق أو ذاك، فالمنطقة على مفترق طرق لا يجوز أن يتحكم بها نتنياهو أو ترامب وانما الاقطار العربية بشعوبها لترسم مستقبلها ومستقبل فلسطين المحررة المستقلة.