إشكالية التخصصات.. هل تبادر الجامعات؟

الحديث عن «التخصصات المشبعة وغير المطلوبة والراكدة»، ما يزال يحتل مساحة كبيرة في أوساط التعليم العالي وهيئة الخدمة والإدارة العامة، خاصة وأن نتائج القبول في الجامعات قد تم إعلانها، والطلبة هم في الأيام الأولى للدراسة رغم الكتابة والبحث فيه كثيرا. ومن لم يحصل على مقعد في الجامعات الرسمية يبحث الآن عن مقعد في التخصص المناسب في البرنامج الموازي أو في الجامعات الخاصة. هذا مع العلم بأن مجلس التعليم العالي كان قد اتخذ قبل عامين مجموعة من القرارات من أهمها عدم استحداث أي برنامج مصنف أنه راكد أو مشبع، وكذلك العمل على تقليل أعداد الطلبة المقبولين في هذه البرامج. ومع هذا فإن الإقبال على ما يسمى تخصصات راكدة أو مشبعة ما يزال قوياً وما زالت نسبة البطالة مرتفعة لدى الخريجين الجامعيين (27 % للذكور و34 % للإناث) بمختلف التخصصات. والسؤال هنا لماذا لم ينجح توجه الإدارة في هذا الشأن؟.

لعل الإجابة تكمن في مجموعة من النقاط لا بد من قراءتها وبالتالي الدخول في الحلول الصحيحة وليس الاكتفاء بمبدأ «فتح الباب أو إغلاقه». أولاً: أن اختيار الطالب للتخصص لا يعتمد فقط على ما هو رائج في سوق العمل من تخصصات، وإنما يتأثر الاختيار بعوامل كثيرة منها: رغبة الطالب وشغفه بتخصص معين، وكذلك قدراته ومواهبه وأهليته في التعامل مع التخصص من جانب أكاديمي ومن جانب تطبيقي، وكذلك التأثيرات الاجتماعية التي تحملها التخصصات المختلفة، إضافة إلى الرواتب المتوقعة أو المعمول بها. ولأن النجاح في الحياة العملية يتأثر كثيرا بالقدرة على التميز والإبداع فليس من الحكمة دفع الطالب نحو تخصص لا يتوافق مع إمكاناته ولا يرى أنه يحقق رغباته وطموحاته. ثانياً: أن الجميع يدرك اليوم أن كلا من سوق الإنتاج وسوق العمل يركزان على المهارات قبل الشهادات، وهذا صحيح. ومن هنا فالحل ليس في إكراه الطالب على تخصص لا يرغبه أو ليس مؤهلاً له وإنما تحويله من مجرد «حامل شهادة» إلى «صاحب مهارات» وبالتالي تمكينه من المهارات الحديثة اللازمة. ثالثاً: ليدرس الطالب أي تخصص يريد تاريخ أو لغة أو آثار إلخ (مع التقدير لهذه التخصصات)، ولكن مسؤولية الجامعة أن تزوده بالمهارات المطلوبة في سوق العمل والإنتاج إلى جانب دراسة التاريخ والآثار واللغة وأي تخصص قد يختاره. وهذه المهارات غدت معروفة وتشمل: المهارات الريادية والمهارات اللغوية والمهارات الحياتية والمهارات الرقمية ومهارات الإبداع وحل المشكلات ومهارات تحليل البيانات وإدارة الوقت ومهارات العمل في فريق والقيادة ومهارات الذكاء الاصطناعي ومهارات التخصص ومهارات صنع الأشياء. رابعاً: يترتب على الجامعات بكلياتها وأقسامها المختلفة أن تعمل على تحديد المهارات الجديدة في كل تخصص أي «المهارات التخصصية» سواء في الحقوق أو المحاسبة أو الآثار أو الجغرافيا أو اللغة على سبيل المثال بالبحث والتواصل مع جامعات متميزة والإفادة من التوجهات المستقبلية والذكاء الاصطناعي والروبوتية والرقمية وكل ما هو جديد. خامساً: ان التفكير في التخصص من منظور الوظيفة الجاهزة سواء في الحكومة أو خارجها هو اقتراب غير صحيح. فأكثر من 65 % من خريجي الجامعات (باستثناء الطب والعلوم الصحية) يعملون في وظائف خارج تخصصهم، ولكن بالاستناد الى المهارات التي لديهم. وهذا يستدعي أن تهتم جميع الجامعات والتخصصات بتدريس الطلبة مادة ومهارات الريادية وإدارة الأعمال حتى يكون الخريج الجامعي قادراً على البدء بمشروع خاص مهما كان تخصص الطالب، ومهما كان ذلك المشروع. وهنا تكون الفرصة الحقيقية لتنمية الاقتصاد الوطني والإضافة إليه والمساهمة في تخفيف حدة البطالة. سادساً: ان النمو المتواضع لاقتصادنا الوطني (في حدود 2.5 %) لا يسمح للاقتصاد أن يولد فرص عمل جديدة إلا في حدود ضيقة (30 % من الفرص المطلوبة سنويا). وهذا يضع على الحكومة مسؤولية كبيرة وهي العمل على زيادة معدل النمو الاقتصادي من خلال التوجه نحو التصنيع وتشجيع الصناعات الإحلالية وفتح مشاريع إنتاجية جديدة وخاصة في المحافظات. سابعاً: إن التركيز على اسواق العمل الخارجية كوسيلة لحل مشكلة البطالة لدى الخريجين الجامعيين وغيرهم، هي في الحقيقة خسارة لرأس المال البشري الوطني الذي يجب استثماره في بناء الاقتصاد الوطني والإضافة إليه. إن الخروج إلى أسواق العمل الخارجية هو في الحقيقة هجرة للعقول والمهارات. ورغم ما يرافقها من عائدات «تحويلات المغتربين»، إلا أن العائدات التي تصل البلاد وتصبح جزءا من الآلة الاقتصادية هي عائدات متواضعة ولا تكاد تصل 20 % من قيمة الإنتاج الفعلي لتلك العقول والمهارات. ومع كل الاحترام والتقدير للجهود التي تبذلها الجامعات ومجلس التعليم العالي في تطوير التعليم العالي وتحسين المواءمة مع سوق العمل إلا أن التغيير الحقيقي يجب أن يبدأ في الجامعات، في كل قسم وكل كلية وكل جامعة لتطوير البرامج التعليمية لتشمل، بالإضافة إلى التخصص بأساسياته المعروفة، المهارات الحديثة لتصبح جزءا لا يتجزأ من الدراسة. أي أن يدرس الطالب في خطين متوازيين: الأول التخصص الذي يريد مهما كان ذلك التخصص، والثاني المهارات الحديثة بكل تفاصيلها العملية التطبيقية على شكل دورات متواصلة ومتشابكة تبدأ بالسنة الأولى وتنتهي مع التخرج، ويعززها التشبيك مع القطاعات الإنتاجية.
 فهل تأخذ الجامعات المبادرة للتغيير؟ والخروج من الحلقة المفرغة للراكد والمشبع وبطالة الخريجين؟ وهل تتحرك في مسيرة جديدة تحافظ فيها على دورها في تقدم المجتمع وتتعامل مع طلبتها وأساتذتها بكل ثقة؟ وهل تبدأ الحكومة مسيرة التصنيع؟ تلك هي المسألة.