بانتهاء «عهد» ترامب قبل 150 يوما، ذلك السياسي المسكون بالعنجهية والفجاجة، وبالصفقات والأعمال، والانصياع الكامل للصهيونية، وانتهاء «عهد» نتنياهو منذ أيام معدودة، والذي امتد 12 سنة متتالية، المسكون بالخداع والتضليل والكراهية للفلسطينيين والعرب، تنفس العالم شيئاً من الهواء النقي الخالي من الأنانية وحب السلطة بأي ثمن.
لم يترك ترامب بلداً إلاّ وضغط عليه إما لمصالحه الشخصية واما لمصالح الصهيونية، وساءت علاقاته مع أقرب حلفائه وهي الدول الاوروبية، ودخل حرباً تجارية مع الصين، وأمعن في ابتزاز الدول العربية مالياً ولوجستيا وسياسيا، وأجبر العديد منها وبإلحاح من نتنياهو على اتفاقيات مجحفة، وعلى التطبيع مع اسرائيل إما مقابل الحماية، واما مقابل المال، واما مقابل تصريحات سياسية، واما مقابل رفع اسم البلد من قائمة الارهاب.
ومن جانبه أمعن نتنياهو في مصادرة الاراضي الفلسطينية والتوحش ضد الفلسطينيين والعمل على قتلهم وتدمير المساكن والمدارس والمستشفيات، وتحويل غزة إلى أكبر سجن في التاريخ الحديث.
كل ذلك في إطار من خداع العالم والتظاهر بالديمقراطية، واستغلال أنانية ترامب لصالحه وفي كل اتجاه، وتجاهل القوانين الدولية والقفز على اتفاقيات السلام. إذ لم يكن نتنياهو يؤمن بالسلام ولا بالحقوق السياسية للشعب الفلسطيني وله أطماع في الاردن وسورية ولبنان، فأمعن في دعم المستوطنين للتوسع المتواصل في اغتصاب الاراضي الفلسطينية. وعمد الى قوننة كل ذلك التوجه العنصري بإصدار قوانين لم يصدر ما يماثلها إلا في زمن الحكم النازي.
ومع الزمن وطريقة إدارته المراوغة، أصبح غير موثوق به في كل مكان، وتحول موقف الاحزاب السياسية الاسرائيلية وموقف الشارع هناك الى كراهية لنتنياهو ورفض لاستمراره. فاندفع أكثر وأكثر باتجاه العنصرية وتعميق الاغتصاب والتهويد في الوقت عينه الذي كان يمارس فيه الفساد، مما جعله مطلوبا للعدالة. وبعد اربعة انتخابات في أقل من سنتين تمكن خصومه من ازاحته عن رئاسة الحكومة. فخرج بنفس الاسلوب الذي خرج فيه ترامب من البيت الأبيض.
اليوم وقد جاء رئيس جديد في أميركا ورئيس وزراء جديد في إسرائيل، هل تغير الحال فيما يتعلق بالشأن الفلسطيني والعربي؟ وهل تغير الموقف الاميركي الفعلي؟ لا يختلف الباحثون في ان ترامب كان فجاً لا يعرف الدبلوماسية وكان «رجل سوق»، مقابل بايدن صاحب الشخصية الهادئة، الذي وصل الى سدة الرئاسة بعد سنين طويلة من العمل الدبلوماسي والسياسي. ولكن سياسة الدولة العميقة في أميركا لم تتغير حتى الآن. ولذلك أبقى بايدن على ما فعله ترامب ولكن، بدبلوماسية وبكلمات ناعمة، سواء من حيث الاعتراف بالقدس بكاملها عاصمة لإسرائيل، او شرعية المستوطنات او حصار غزة، أو ضم الجولان أو قانون قيصر، او الاعتداء على الأماكن المقدسة، وغير ذلك الكثير.
كذلك فإن الحال في اسرائيل لم يتغير مع الحكومة الجديدة. فرئيس الحكومة الجديدة «نفتالي بينيت» يهودي اميركي متطرف، ومتحمس للاستيطان واستعمال القوة ضد الشعب الفسطيني وتوسيع دائرة التطبيع مع الأقطار العربية. وأظهر تطرفه في اليوم الثاني لتسلم الحكومة مقاليد الامور حين وافق على «مسيرة الاعلام» التي تحيي ذكرى احتلال القدس العام 1967. واستعملت الشرطة القوة المفرطة ضد الفلسطينيين في القدس وقتلت حتى اليوم 5 من الشباب والشابات واعتقلت العشرات. وفي صباح اليوم الثالث من حكمه، ضربت الطائرات الاسرائيلية بالصواريخ مواقع عدة في غزة. وهو يريد ان يرسل رسالة الى العالم والى الفلسطينيين بأنه سيستعمل القوة مقابل اي حركة يقوم بها الفلسطينيون المدافعون عن وطنهم وارضهم وبيوتهم ومقدساتهم.
ورغم تصريح بايدن بأنه يؤيد حل الدولتين، ويريد السلام لإسرائيل والفلسطينيين فإن دعم الدولة العميقة الاميركية لإسرائيل لم يتغير أبدا، ولا يتوقع ان يتغير. وبالتالي فإن التعويل على الوجوه الجديدة، سواء في تل ابيب أو واشنطن، في مسألة السلام والمفاوضات مع الجانب الفلسطيني هو في غير مكانه على الاطلاق. إن الأسباب لعدم التغيير عديدة وعلى النحو التالي:-
اولاً: رغم تماسك الشعب الفلسطيني وتوحده الإنساني والوطني الرائع في مواقعه الثلاثة غزة والضفة والداخل (عرب 1948)، ورغم التعاطف العربي والدولي الكبير الذي تجلى بعد العدوان الاخير على غزة وجنين ويافا، إلا ان الانقسام الفلسطيني بين الفصائل لم يخرج من الساحة، وبقي سائدا، رغم الجهود المتعددة في هذا الاتجاه. آن الأوان ان يدرك قادة الفصائل الفلسطينية ان الانقسام هو السلاح السياسي الأقوى بيد اسرائيل وأنجع اداة لانصراف المجتمع الدولي عن القضية.
ثانياً: ان الفكر الاستعماري المتوحش يسيطر الى درجة كبيرة على الشارع الاسرائيلي، وان الاجيال الناشئة هناك تتعلم في المدرسة ووسائط الإعلام والثقافة كراهية العرب، وانكار الحقوق الفلسطينية، وحق اليهود باغتصاب الارض وقتل الأطفال والنساء، بل وكل ما تنادي به الصهيونية على النمط الاستعماري المتأثر بالنازية. ولن يتغير هذا الموقف الاّ اذا وجدت اسرائيل نفسها امام كتلة فلسطينية متماسكة تقودها منظمة التحرير المعترف بها دوليا وتنضوي تحت لوائها جميع الفصائل الفلسطينية.
ثالثا: ان رجال السياسة في اسرائيل قد اكتشفوا في المستوطنين كنزاً لا ينضب للأصوات الانتخابية، وان استرضاءهم يتحقق واصواتهم تعطى بمزيد من التوسع الاستعماري، تماما كما وجد السياسيون الأميركيون في دعم وتأييد اسرائيل كنزاً لدعم حملاتهم الانتخابية. ولذا لا ينبغي التوقع بتغيير هذه الحالة الا اذا اصبح هناك ثمن باهظ لدعم المستوطنين من جهة ودعم اسرائيل في اميركا من جهة ثانية.
رابعاً: ان الأنظمة العربية والتي تسير باتجاه معاكس لما تريده شعوبها، وبسبب التعاقدات غير المعلنة التي تلتزم بها، غير مستعدة للحركة بسبب الاعتماد على الدعم الاميركي والذي يمتد الى الكثير من الدول الحليفة والمؤسسات الدولية.
خامساً: ان مواقف كل من روسيا والصين وتركيا غائمة تجاه ما تقوم به اسرائيل وترتبط هذه الدول معها باتفاقيات تعاون وتجارة واستثمارات بالمليارات وهناك تعاون في المجالات العلمية والتكنولوجية والبحث العلمي وبشكل خاص مع الصين وروسيا وتركيا. وتبرر هذه الدول سياساتها بنظرية السلام الاقتصادي. وهذا مكسب كبير لإسرائيل. ومن هنا فعلى الدبلوماسية العربية أن تتعامل مع هذه الحالة بحنكة وذكاء.
سادسا: لقد آن الأوان لدولة فلسطين ومنظمة التحرير المعترف بها دوليا ان تطلب الحماية الدولية للشعب الفلسطيني وممتلكاته. وهذه مسألة سياسية وقانونية معقدة تتطلب العمل الدؤوب وطول النفس.
لقد أثبتت أحداث العدوان الإسرائيلي الأخير على كل الشعب الفلسطيني وأراضيه ومقدساته، قوة التعاطف العربي والدولي الشعبي في العالم، وقد حركته المعلومات التي بثتها وسائط الإعلام الشعبية وشبه الرسمية. وهذا يستلزم العمل على أوسع نطاق مع منظمات المجتمع المدني ومواقع التواصل الإجتماعي لنقل الصورة الحقيقية للهمجية والعنصرية الإسرائيلية، وتشجيع كل هؤلاء على مقاطعة اسرائيل ومعاقبتها. ولا بد للسلطة الفلسطينية أن تستغيث بمنظمة الصحة العالمية لحماية المرافق والجهاز الطبي، وتسنغيث باليونسيف لحماية الأطفال، وباليونسكو لحماية المؤسسات التعليمية والعلمية، وبمنظمة الغذاء العالمية لحماية الأشجار والمحاصيل، وهكذا.
إن مسيرة التحرير طويلة وشاقة ومعقدة، وتعتمد على العقل والعلم والحنكة، وعلى وحدة الفصائل. ولكن نهايتها دحر الاحتلال وبزوغ شمس فلسطين العربية المستقلة من جديد.