ينشأ الإشكال ربما لأسباب رئيسية ثلاثة الأول: إننا معتادون في المنطقة العربية أن الزعيم هو الذي يقرر كل شيء، ويحدد جميع الاتجاهات، ويعادي تلك الدولة أو يصادقها، ويقطع العلاقات أو يوصلها. فهو الذي يصنع سياسة الدولة بكاملها. ولكن هذا النمط لا ينطبق على الكثير من دول العالم الأخرى، وخاصة الدول الديمقراطية. حيث تشارك مؤسسات الدولة زعيمها في رسم السياسات واتخاذ القرارات بفاعلية، مع وجود هامش للحركة لمختلف الأطراف لا يتجاوز الخطوط الإستراتيجية التي ترسخت وتمثل مصلحة الدولة بعيداً عن النظرة الوقتية للزعيم. والثاني: أن الإدارة في الدول الديمقراطية بما فيها الرئيس مسؤولة أمام المؤسسات القانونية والقضائية و الرأي العام في الانتخابات، وأمام البرلمان والذي يتكون من تكتلات حزبية تتابع كل التفاصيل، وتنظر في المآلات المستقبلية للسياسات والقرارات، وتستند إلى دراسات الخبراء والمفكرين ومراكز البحوث المتخصصة. والثالث:أن التحالفات الإستراتيجية والمصالح المشتركة العميقة بطبيعتها تسمح للخلافات أن تظهر من آن لآخر دون أن يؤثر ذلك على الروابط القائمة، باعتبار الخلافات غالبا ما يمكن تسويتها مع الوقت.
ومن هنا فإن ما نراه اليوم بين بايدن ونتنياهو لا يعدو أن يكون خلافات سطحية او دعائية أو تجميلية أو شخصانية لا تغير من الواقع شيئا. لأن التغيير لا يقع إلا إذا كانت هناك وراءه قوة وفعل حقيقي يؤثر في المصالح الكبرى و يدفع بإتجاه مسار مختلف. والسؤال لماذا ستغير الولايات المتحدة من موقفها إزاء إسرائيل؟ وهي الدولة الأولى التي اعترفت بها و احتضنتها كواحدة من ولاياتها، وكركيزة أساسية للتحكم في المنطقة العربية، مقابل ما تقدمه إسرائيل للولايات المتحدة أولا وأوروبا بدرجة ثانية من خدمات ضخمة على مدى السبعين سنة الماضية. ومن أبرز هذه الخدمات المستثمرة أميركيا وأوروبيا دون انقطاع أولا المساهمة الكبرى و المستمرة في تفكيك المنطقة العربية، وتهشيم عدد من دولها من خلال تغذية الصراعات الداخلية، أو الانقسامات أو حركات الإنفصال، أوتحريك الجماعات الإرهابية المتطرفة والتي لم تكن إسرائيل بعيدة عن تكوينها و دعمها و تمويلها. ثانيا: الترويج من خلال عملائها و إعلامها للأفكار والمقولات الطائفية المتعصبة بهدف إحداث انقسامات دينية وطائفية في أي دولة عربية يمكنها أن تجد فيها فرصة لذلك. ثالثا بالتنسيق مع الدول الغربية، فرض سقوف لنوعية الأسلحة أو المعدات أو المنشآت أو التكنولوجيات التي يمكن لأي دولة عربية الحصول عليها، وإلا فتدميرها عند الضرورة. رابعا: الضغط على الولايات المتحدة و حلفائها لغزو العراق و تفكيكه .خامسا: حالة التهديد الذي تشكله للمنطقة مما يدفع دولها إلى التوسع في استيراد الأسلحة والمعدات الحربية، حتى أصبحت الدول العربية في مقدمة دول العالم المستوردة للسلاح وبشكل رئيسي من الولايات المتحدة و الدول الأوروبية. سادسا: استنزاف البلاد العربية العاجزة عن تشكيل كتلة إقليمية متماسكة في الاعتماد على أميركا وأوروبا والمؤسسات الدولية عسكريا وسياسيا واقتصاديا وماليا واستثماريا، وبشكل متصاعد.سابعا: وجود شركات صناعية أميركية وأوروبية في إسرائيل متخصصة في التكنولوجيا المتقدمة و خاصة في الاتصالات وصناعة الأسلحة والبرامج السبرانية.
وهكذا فإن وجود إسرائيل وسياساتها جعلت المنطقة العربية ساحة مفتوحة للتدخلات الأجنبية وسوقاً واسعاً للسلع والخدمات الأوروبية والأميركية. من جانب آخر أصبحت الأموال اليهودية في أميركا وأوروبا سنداً رئيسياً للسياسيين في حملاتهم الانتخابية. ونجحت الصهيونية في ظل الغياب العربي المبرمج والطويل الأمد أن تنسج صورة دعائية براقة لإسرائيل، تختلط فيها الغايات الاستعمارية مع الأقاويل الدينية مع الرؤية الاستعلائية العنصرية مع روايات المظلومية المزيفة، في إطار صورة مشوهة للمنطقة العربية بما في ذلك فلسطين. وبالمقابل فتحت أميركا والسداسي الاستعماري الأوروبي و خاصة بريطانيا وفرنسا وألمانيا وأيطاليا وبلجيكا أبوابها لتزويد إسرائيل بكل شيء ابتداء من المعدات العسكرية المتقدمة مروراً بالدعم السياسي والدبلوماسي وانتهاء بتوظيف المؤسسات الدولية لصالح إسرائيل.
ومن هنا فإن نتنياهو أو بايدن أو سوناك أو شولتز لا يستطيع أي منهم أن يكون خارج شبكة العلاقات الاستعمارية المعقدة إلا في حالة واحدة ، وهي التكتل العربي والتماسك الوطني في كل دولة عربية، والاستعداد للتعاون الصادق، وتصفير الخلافات مع الدول العربية المجاورة أو القريبة من الجوار، و ليس مجرد الخلاف بين الرؤساء والقادة. حين تهتز شبكة المصالح بتأثير التماسك بين الأقطار العربية والإرادة الأكيدة للخروج من الاعتماد على الآخرين آنذاك تتآكل قوة الشبكة الإسرائيلية الأميركية الأوروبية بغض النظر عن نتنياهو وعن بايدن و تذهب دولهم إلى تغييرسياساتها فعلا.