أزمة التعليم أزمة مجتمع


تفاصيل الحدث


د. زهير توفيق

ينقش الدكتور ابراهيم بدران في كتابه الجديد «عقول يلفها الضباب، ازمة التعليم في المجتمع العربي»، التأثيرات المتبادلة بين المجتمع والتعليم، ودور كل منهما في تأخير أو تطوير الآخر، ويندرج نص الكتاب على ضخامته (496 صفحة) في سياق اجتماعات واقتصاديات التعليم أو علم الاجتماع التربوي، بالإضافة إلى موضوعات أخرى متفرقة في النقد الثقافي للحالة العربية سياسيا وفكريا واجتماعيا، وتأثيرات البيئة الطبيعية والمناخ على التعليم.

تتعلق مقالتي الموجزة هنا بعرض أهم المقولات والافكار التي احتواها الكتاب والتعرف على القواعد المنهجية التي اتبعها ويتبعها د. ابراهيم بدران في نقده وتحليله للمشكلات التربوية والاقتصادية والفكرية كما ورد في الكتاب وفي غيره من الدراسات، وعليه فسيكون عرضنا عرضا مزدوجا لمضمون الكتاب ومنهجيته في الاساس.

ينطلق د . بدران من فرضية اولية مفادها أن التعليم بطبيعته صورة لطبيعة المجتمع وفلسفته باتجاهاته ومشكلاته ومستواه،ومن المتوقع أن تكون التأثيرات المتبادلة حاسمة، نظرا لارتفاع مستوى التداخل والتشابك بين التعليم والاقتصاد والسياسة والديمقراطية، وتقدم المجتمع وتأخره من جهة وبين التعليم من جهة اخرى، هذا من جهة ومن جهة ثانية لا ينفصل التعليم عن محتواه ومادته، واقصد بذلك العلم وفلسفة التربية في المجتمع التي ستقوده نحو التقدم والتنوير أو نحو الجمود والتأخر.

وفي هذا السياق يرى د. بدران أن هدف العلم والتعليم أبعد من التحديث وتأهيل الفرد، بل يذهب إلى ما هو ابعد من ذلك إلى تحقيق الحداثة قبل التحديث، وتعميم قيم العصر والمستقبل، واستعادة التعليم والعلم ليكون رافعة التقدم والتغيير الاجتماعي وبالتالي فلا مجال للتعامل مع الفرد المتعلم كائنا معزولا عن ارتباطاته المجتمعية المؤثرة فيه .

تكمن اشكالية التعليم في المجتمع العربي كما يفترض الكتاب بعجز التعليم عن التأثير الحقيقي في بنية المجتمع العربي التقليدي،الذي شد التعليم إليه، واضفى عليه طبيعته المتخلفة، وبدلا من التطلع إلى التقدم والمستقبل أصبح معيار التعليم ومرجع فلسفته هو الماضي والماضوية، وبالتالي فقد اضعف المجتمع الضعيف و إلى ابعد الحدود الطاقة التغييرية للعلم والتعليم، فغاب العقل النقدي والابداع وحل محله التقليد والامتثالية .

يشير د . بدران إلى أن العجز أو تجاهل خطورة الازمات العامة، ومنها ازمة التعليم وتركها تتفاعل سلبيا في مفاصل المجتمع الضعيف اصلا جعل العقلية العربية رهينة لتلك الازمات فاعتادت عليها، ولم تعد ترى فيها شيئا خطيرا أو استثنائيا،وانسحب ذلك على المواطن والمسؤول الذي لم تعد تحركه صدمة التخلف أو الفجوة الحضارية او الرقمية التي ما فتأت تتسع بين دول التقدم والدول العربية، التي تتباين مستويات تطورها في اطار النمو والتخلف، ويرتبط بغياب الصدمة الرقمية او الاحساس بفجوة التقدم والتخلف المراوحة في المكان والازدواجية على مستوى المعايير والمرجعيات التربوية وحالة اللاحسم، التي تلف الحياة العربية، فلا يوجد مشكلة واحدة تم مواجهتها والتعاطي معها بحل أو حسمت حسما كاملا ونهائيا بدلالة التقدم والمستقبل، وما زالت مشكلات الفكر والواقع كالتعليم وغيره مفتوحة للأخذ والرد،تراوح مكانها وتلفها حالة من الضبابية التي تهيمن على مشاريع الاصلاح والرؤى والمنهجيات المتبعة للتغيير. وقد زادت الحالة الانتقالية الراهنة تعقيدا بشد المنظومة التربوية والتعليمية كما يقول د. بدران الى المربع الاول،او ما يسميه الشبكة العصبية لمنظومة التعليم.

اما التعليم العالي فتتمثل اهم ازماته في انفصاله عن المجتمع والاقتصاد فلا يوجد تنسيق حقيقي ولا تشبيك لانخراط العلم والعلماء والباحثين على مستوى التخصص والبحث العلمي في مشكلات المجتمع والانتاج،فلا يوجد اقتصاد انتاجي من حيث المبدأ يتطلب جهودا ذاتية لرعاية الابداع والابتكار والبحث الخلاّق لتطويره وحل مشكلاته، وعليه فما زال المردود الحضاري والاقتصادي للتعليم المجرد من محتواه المجتمعي على المجتمع في ادنى مستوياته، ولا يوجد اي تناسب لا كميا ولا نوعيا بين كلفة المدخلات والمخرجات، والسبب برأيه هو تحكم المفاصل الهشة للمجتمع بالتعليم بكافة مستوياته، واهمها العقلية العربية التقليدية،وازدواجية اللغة،وتدني مستوى الفنون والتربية الجمالية، وغياب الفلسفة والتفكير المنطقي والعلمي والنقدي عن التعليم والمجتمع، واشكالية الاصالة والمعاصرة – التي غالبا ما تم تداولها وحل مشكلتها لمصلحة الاصالة التي تعني العودة الى الماضي والسلفية –هناك الخصوصية التي فهمت فهما مغلوطا، فبدلا من فهمها بمعنى التميز بالشيء؛ اصبحت احساسا وهميا بالتفوق بالمعطى القائم، وفي حقيقة الامر لا يوجد في المعطى القائم إلا التخلف شيئا مميزا وخاصا بنا، اما الاحزاب القومية والدينية، فلعبت دورا سلبيا في التعليم وباقي ازمات المجتمع، فقد عاشت تلك الاحزاب على الشعارات والايديولوجيا، وغيبت المشاركة والحوار والمسألة الوطنية لصالح كيانات وهمية وكرست البيروقراطية إلى ابعد مدى وابعدت نفسها عن العلم والتعليم والتربية، ومن المفاصل الهشة الاخرى وضع المرأة، وتدني دورها وفاعليتها في الانتاج والمجتمع،واخيرا هناك تحالف القوى السلفية طيلة المرحلة الماضية مع الاستبداد العربي الذي جمد التفكير والتعليم وفرّغه من محتواه الديمقراطي والتنويري.

اما الحلول المفصلية التي طرحا الكتاب فتتلخص بالإصلاح الشامل، ونشر الديمقراطية وثقافة الابداع، ورعاية الشباب والفنون، وعقلنة المجتمع والقرار السياسي،وتغيير وضع المرأة، واعادة بناء الاقتصاد على قادة الانتاج والتصنيع الشامل، والتطلع الى المستقبل كونه المرجع والمعيار وليس الماضي.

اما منهجية الكتاب فيمكننا استنباط الملامح والقواعد التالية:

1- تعامل الدكتور بدران مع التعليم كونه اشكالية وليس مجرد مشكلة معزولة، كما تعامل معها البعض، وهذا سر فشل الحلول والاصلاحات الراهنة، والمقصود بإشكالية التعليم ارتباطه بالقطاعات الاخرى ارتباطا عضويا بحيث لن ينجح اصلاح التعليم الا بالارتباط مع اصلاح القطاعات الاخرى.

2- عدم التعامل مع التعليم تشخيصا ومعالجة كونه موضوعا هامدا سلبيا لا يمتلك الديناميكية، ويتطلب الاصلاح من خارج منظومته، بل هو نفسه (التعليم) أداة تطوير وحل لازمات القطاعات الاخرى.

3- اتباع منهج تكاملي كلي يتجاوز فيه تحديد سبب واحد للازمة أو نتيجة واحدة لها.

4-التمسك بالأمل والتفكير الايجابي،فرغم قساوة المشكلة الا انه لا يتوقف عند تشخيصها ووصفها، بل يذهب ابعد من ذلك، ويطرد العدمية بطرح البدائل والحلول.

5- استخدام الحد الادنى من المراجع، ولا يلجأ اليها إلا للضرورة العلمية، ويبتعد كل البعد عن لعبة المتعالمين بحشد اكبر عدد ممكن من المراجع لترويع القارئ واشعاره بدونيته، فهاجس الدكتور بدران كما يقول دائما هو الوصول للقارئ العادي ومشاركته الهم الوطني والتفاعل معه.

6- يحفل الكتاب – وكل دراسات الدكتور ابراهيم – بالأرقام والجداول والمؤشرات الاحصائية الموثوقة والموثّقة، من المنظمات الدولية والمؤسسات الرسمية، ووكالات الامم المتحدة، واذا تعذر ايجاد شيء منها يقوم هو نفسه بتصميمها لخدمة غرضه العلمي. وفي الكتاب عشرات من الجداول والمؤشرات الاحصائية.

7- لا يهدف الدكتور ابراهيم إلى انشاء نسق فكري او فلسفي، او مشروعا كليا من ابحاثه ودراساته، بل هو اقرب الى صاحب الرسالة المجتمعية، والداعية للتغيير والتقدم، وهذا ما يفسر اصراره على نشاطه الدائم، وتأكيد حضوره في المجال العام الاكاديمي والمجتمعي والسياسي: ندوات مقابلات، لقاءات، مؤتمرات… الخ، وتكراره لنفس المقولات والمفاهيم المفتاحية في كل دراساته؛ كالتصنيع، والريادة، والابداع، والعقل النقدي، والتقدم، والصدمة الحضارية، والفجوة الرقمية وغيرها.

8- القياس على النماذج القياسية للدول الناهضة، وعدم الاكتفاء بالقياس على مستوى الدول المتقدمة،فما هو ملهم ومشجع الان وما نحن بحاجة إليه هو استحضار التجارب الناهضة في التنمية والتقدم كماليزيا وسنغافورا وتركيا وجنوب افريقيا وكوريا الجنوبية وايرلندا والصين وغيرها من الدول التي حققت نجاحات مذهلة في التعليم والاقتصاد.

9- الرؤية المستقبلية: فهو يعتقد بشكل أو بآخر ان معيار التقدم واتجاهه هو التطلع الى المستقبل،وليس خدمة الحاضر فقط أو العودة الى الماضي.

10 – نحت المفاهيم والمصطلحات الجديدة وتصميم الخرائط المعرفية كوسيلة ايضاح وتفكير في الموضوع المدروس.

تلك بعض ملامح كتاب الدكتور ابراهيم بدران الجديد الصادر عن دار الشروق -وبدعم من جامعة فيلادلفيا – في عمان 2017، وهو بضخامته وغزارة افكاره اكبر من أي تلخيص أو عرض، ولا غنى عن قراءته والتأمل فيه.